بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْجَاثِيَةِقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى -.
الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
الثَّانِي: خَلْقُهُ النَّاسَ.
الثَّالِثُ: خَلْقُهُ الدَّوَابَّ.
الرَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
الْخَامِسُ: إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ.
السَّادِسُ: تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ.
وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَلِذَا قَالَ: لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، ثُمَّ قَالَ: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. صفحة رقم 179
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [٥٠ ٦ - ٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٣٤ ٩]. وَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [١٠ ١٠١]. وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٧ ١٥٨]. وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [٣٠ ٢٢] فِي «الرُّومِ» وَ «الشُّورَى» [٤٢ ٢٩]. وَقَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [٤٠ ٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [٤٠ ٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [٥١ ٤٧ - ٤٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [٧٨ ٦ - ١٢]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. [٣٠ ٢٠]. وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [٢ ٢١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [٧١ ١٣ - ١٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [٣٩ ٦]. وَقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [٥١ ٢١]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الشُّورَى» : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [٤٢ ٢٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٣٩ ٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [٣٩ ٦]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣ ١٩٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «فُصِّلَتْ» : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [٤١ ٣٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [٣٦ ٣٧ - ٣٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [٢٤ ٤٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [٢٨ ٧١ - ٧٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٢٣ ٨٠]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٨٠ ٢٤ - ٣٢].
وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ.
هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [٢٤ ٤٣] ؟.
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ؟
الْجَوَابُ: لَا.
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٦ ٩٩]. وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [٧٨ ١٤ - ١٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [٣٦ ٣٣]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [٤٠ ١٣].
وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٢ ١٦٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [٣٠ ٤٦]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [١٥ ٢٢]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَظِيمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ - ثَلَاثَةٌ مِنْهَا مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الَّتِي يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْبَعْثِ، كَثْرَةً مُسْتَفِيضَةً.
وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» وَسُورَةِ «النَّحْلِ» وَغَيْرِهِمَا، وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَسَنُعِيدُ طَرَفًا مِنْهَا هُنَا لِأَهَمِّيَّتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَالْأَوَّلُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَذْكُورُ هُنَا فِي سُورَةِ «الْجَاثِيَةِ» هَذِهِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ خَلْقَهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - مِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مَنْ خَلَقَ الْأَعْظَمَ الْأَكْبَرَ لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَضْعَفِ الْأَصْغَرِ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [٤٠ ٥٧] أَيْ وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَكْبَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَصْغَرِ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [٣٦ ٨١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٤٦ ٣٣]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ الْآيَةَ [١٧ ٩٩]. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [٧٩ ٢٧ - ٣٣].
وَنَظِيرُ آيَةِ «النَّازِعَاتِ» هَذِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الصَّافَّاتِ» : فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا الْآيَةَ [٣٧ ١١] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ مَنْ خَلَقْنَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِلَى قَوْلِهِ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [٣٧ ٥ - ١٠].
وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْبَرَاهِينِ الْمَذْكُورَةِ: فَهُوَ خَلْقُهُ - تَعَالَى - لِلنَّاسِ الْمَرَّةَ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ - خَلْقَهُمْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ - لَا شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ عَلَى الْبَعْثِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [٢٢ ٥] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [٣٦ ٧٨ - ٧٩]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ الْآيَةَ [١٩ ٦٦ - ٦٨]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [٣٠ ٢٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [١٧ ٥١]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [٢١ ١٠٤]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [٥٠ ١٥]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [٥٦ ٦٢]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى [٥٣ ٤٥ - ٤٧]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [٧٥ ٣٦ - ٤٠]. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ