
قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ روى أبو صالح عن ابن عباس أنها نزلت في النضر بن الحارث.
وقد بيَّنّا معناها في الشعراء «١»، والآية التي تليها مفسَّرة في لقمان «٢».
قوله تعالى: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً قال مقاتل: معناه: إِذا سمع. وقرأ ابن مسعود: «وِإذا عُلِّمَ» برفع العين وكسر اللام وتشديدها. قوله تعالى: اتَّخَذَها هُزُواً أي: سَخِر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «٣» فدعا بتمر وزُبْد، وقال: تَزَقَّموا فما يَعِدُكم محمد إِلاَّ هذا، وإِنما قال: أُولئِكَ لأنه ردَّ الكلام إلى معنى «كُلّ». مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ قد فسَّرناه في إبراهيم «٤» وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً من الأموال، ولا ما عبدوا من الآلهة. قوله تعالى: هذا هُدىً يعني القرآن وَالَّذِينَ كَفَرُوا به، لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم:
«أليمٌ» بالرفع على نعت العذاب. وقرأ الباقون: بالكسر على نعت الرِّجز. والرِّجز بمعنى العذاب، وقد شرحناه في الأعراف «٥». قوله تعالى: جَمِيعاً مِنْهُ أي: ذلك التسخير منه لا مِنْ غيره، فهو مِنْ فضله.
وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن عباس، وأبو مجلز، وابن السميفع، وابن محيصن، والجحدري: «جميعاً مِنَّةً» بفتح النون وتشديدها وتاء منصوبة منوَّنة. وقرأ سعيد بن جبير: «مَنُّهُ» بفتح الميم ورفع النون والهاء مشددة النون.
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٤ الى ٢٢]
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢)
قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا... الآية، في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أنهم نزلوا في غَزاة بني المصطلق على بئر يقال لها: «المريسيع»، فأرسل عبدُ الله بن أُبيّ غلامَة ليستقيَ الماء، فأبطأ عليه، فلمّا أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر، ما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقُرَبَ أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء إِلاّ كما قيل: سمِّن كلبك يأكلك، فبلغ قولُه عمر، فاشتمل سيفَه يريد التوجُّه إِليه، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء
(٢) لقمان: ٧. [.....]
(٣) الدخان: ٤٣- ٤٤.
(٤) إبراهيم: ١٦.
(٥) الأعراف: ١٣٤.

عن ابن عباس «١».
(١٢٥٩) والثاني: أنها لمّا نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «٢» قال يهوديُّ بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج ربُّ محمد. فلما سمع بذلك عمر، اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طلب عمر، فلمّا جاء، قال: «يا عمر، ضَعْ سيفَك» وتلا عليه الآية، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس.
(١٢٦٠) والثالث: أنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل مكة كانوا في أذىً شديدٍ من المشركين قبل أن يؤمَروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله القرظي، والسدي.
والرابع: أن رجلاً من كفار قريش شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ عمر أن يبطش به، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «٣».
ومعنى الآية: قُلْ للذين آمنوا: اغْفِروا، ولكن شبِّه بالشرط والجزاء، كقوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «٤»، وقد مضى بيان هذا. وقوله: لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أي: لا يَخافون وقائع الله في الأُمم الخالية، لأنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه. وقيل: لا يَدْرُون أنْعَمَ اللهُ عليهم، أم لا.
وقد سبق بيان معنى «أيّام الله» في سورة إبراهيم «٥».
فصل:
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية منسوخة، لأنها تضمَّنت الأمر بالإِعراض عن المشركين. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «٦»، رواه معمر عن قتادة. والثاني: أنه قوله في الأنفال: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ «٧»، وقوله في براءة: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «٨»، رواه سعيد عن قتادة. والثالث: أنه قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «٩»، قاله أبو صالح.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لِنَجْزِيَ» بالنون «قوماً» يعني الكفار، فكأنه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن. وما بعد هذا قد سبق «١٠» إلى قوله:
عزاه المصنف للقرظي وهو محمد بن كعب، وللسدي، ولم أقف على إسناده، وكلاهما مرسل.
وأخرج الطبري ٣١١٨٥ بسند فيه مجاهيل عن ابن عباس نحوه. وهذا القول أقرب للصواب، وإن لم يصح بوجه من الوجوه. وكون السورة نزلت في عمر، واه بمرة.
__________
(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٤٣ بدون إسناد، فهو لا شيء.
(٢) البقرة: ٢٤٥.
(٣) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم بالكذب، فالخبر لا شيء.
(٤) إبراهيم: ٣١.
(٥) إبراهيم: ٥.
(٦) التوبة: ٥.
(٧) الأنفال: ٥٧.
(٨) التوبة: ٣٦.
(٩) الحج: ٣٩.
(١٠) الإسراء: ٧.