آيات من القرآن الكريم

وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ

الأرض من شمس وقمر ونجوم وكواكب، وجبال وسهول وأنهار ومعادن وزروع وأشجار ونباتات وغيرها، ففي ذلك كله دلائل واضحة على توحيد اللَّه وقدرته.
٣- الأخلاق الحسنة تابعة للعقيدة الصالحة، لذا بعد أن علّم تعالى عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، علمهم محاسن الأخلاق وفضائل الأفعال، فأمر بالعفو والصفح عن المشركين والمنافقين واليهود، ليكون ذلك سببا لجزاء المؤمنين على ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الطيبة. والآية ليست منسوخة بناء على أنها نزلت بالمدينة، أو في غزوة بني المصطلق.
٤- إن ثواب العمل الصالح، وعقاب العمل السيء يرجع إلى صاحبه، فينفعه أو يضره في آخرته، وإن جميع الخلائق عائدون إلى ربهم للحساب والجزاء، فالعمل الصالح يعود بالنفع على فاعله، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله، وأنه تعالى أمر بهذا، ونهى عن ذلك، لحظّ العبد، لا لنفع يرجع إليه.
وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح، وزجر عن العمل الباطل.
نعم الدين وإنزال الشرائع
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)

صفحة رقم 265

الإعراب:
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ مبتدأ وخبر.
البلاغة:
فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بين الفعلين الأول والثاني ما يسمى بطباق السلب.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي التوراة وَالْحُكْمَ أي والحكمة النظرية والعملية، أو الفهم والقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، لأنهم كانوا ملوكا وحكاما وَالنُّبُوَّةَ النبوة لموسى وهارون وكثير من الأنبياء، إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المباحات اللذائذ كالمن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم البشر، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل واضحات في أمر الدين، ومنها المعجزات فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر الديني إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ العلم بحقيقة الحال عداوة وحسدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ.. بالمؤاخذة والمجازاة.
ثُمَّ جَعَلْناكَ يا محمد عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ طريقة ومنهج من أمر الدين، وأصل الشريعة: مورد الماء، ثم أستعير للدين، لأن الناس يردون فيه ما تحيا به نفوسهم فَاتَّبِعْها اتبع شريعتك الثابتة بالحجج وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ آراء الجهال التابعة للشهوات.
لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ لن يدفعوا عنك مِنَ اللَّهِ من عذابه وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين

صفحة رقم 266

بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي إن جنس الظلم علة موالاة بعضهم بعضا، فلا توالهم باتباع أهوائهم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ نصير المؤمنين هذا القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ معالم للدين يتبصرون بها وجه الفلاح في الأحكام والحدود وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ ونعمة من اللَّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون اليقين.
المناسبة:
بعد بيان بعض نعم اللَّه في الدنيا على الناس جميعا فهي نعم عامة، ذكر تعالى نعم الدين والدنيا على بني إسرائيل فهي نعم خاصة، وبما أن نعم الدين أفضل من نعم الدنيا، بدأ تعالى بتعداد نعمه الدينية عليهم، وأتبعها بالنعمة العظمى على الإنسانية وهي الشريعة الإسلامية التي لم يبق في الوجود دليل آخر سواها على صحة مصدريتها من اللَّه سبحانه، فكانت هي البصائر والهدى والرحمة.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ... أي تا للَّه لقد أعطينا بني إسرائيل نعما خاصة، أذكر منها هنا ستا وهي:
١- إنزال التوراة على موسى عليه السلام التي فيها هدى ونور.
٢- الفهم والفقه لفصل القضاء والخصومات بين الناس، لأنهم جمعوا بين حكم الدين وحكم الدنيا، فجعل الملك فيهم.
٣- إرسال الرسل إليهم، كموسى وهارون عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء الكثيرين.
٤- إمدادهم بطيبات الرزق المباحة المستلذة من المآكل والمشارب كالمن والسلوى.

صفحة رقم 267

٥- تفضيلهم على عالمي زمانهم من الناس، حيث كثر فيهم الأنبياء، وجمعوا بين الملك والنبوة، وأوتوا من المعجزات العامة المادية الباهرة، كفلق البحر وتظليل الغمام، والإنجاء من ظلم فرعون وجنوده، فكانوا أرفع درجة وأعلى منقبة بين الشعوب في عصرهم.
٦- إيتاؤهم الحجج والبراهين والمعجزات والأدلة القاطعة، والأحكام والمواعظ والشرائع الواضحة في الحلال والحرام.
ومع كل هذا لم يشكروا تلك النعم، بل اختلفوا في أمر الدين، كما قال تعالى:
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي فما وقع الاختلاف بينهم في أمر الدين إلا بعد العلم بحقيقة الحال، وبعد قيام الحجة عليهم، حبا للرئاسة، وعداوة وحسدا وعنادا، وبغيا منهم على بعضهم بعضا.
والخلاف في الأشياء يستتبع القضاء، لذا قال تعالى:
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن اللَّه سيفصل بينهم بحكمه العدل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبيّن المحقّ من المبطل.
وفي هذا تحذير للأمة الإسلامية أن تختلف مثل اختلاف بني إسرائيل، لذا قال تعالى:
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي ثم جعلناك يا محمد على طريقة ومنهاج من أمر الدين يوصلك إلى الحق، فاتبع ما أوحي إليك من ربك، واعمل بأحكام شريعتك المؤيدة بالأدلة الواضحة في أمتك، ولا تتبع ما لا حجة فيه من أهواء الجهال المشركين الذين

صفحة رقم 268

لا يعلمون توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك، وهم كانوا أفضل منك وأسنّ، فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله: وَلا تَتَّبِعْ الآية، أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب، وهم لا يقدرون على دفعه عنك.
وعلة النهي عن اتباع أهوائهم هي ما قال تعالى:
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي إن هؤلاء المشركين الجهلة لن يدفعوا عنك من الله شيئا أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعتك.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي وإن هؤلاء الكافرين ينصر بعضهم بعضا، فالمنافقون أولياء اليهود في الدنيا، ولكن تناصرهم لا يفيدهم شيئا في الآخرة، ولا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا، والله ناصر المؤمنين الذين اتقوا الشرك والمعاصي، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، أما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. وهذه تفرقة واضحة بين ولاية الله للمتقين، وولاية الظالمين لبعضهم.
ثم بيّن الله تعالى فضل القرآن الدائم الخالد، قائلا:
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ، وَهُدىً، وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي هذا القرآن المشتمل على شرائع الله الخالدة إلى يوم القيامة هو دلائل وبراهين للناس جميعا فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين، وهاد إلى الجنة من عمل به، ورحمة من الله وعذابه في الدنيا والآخرة لقوم من شأنهم الإيقان وعدم الشك بصحته وتعظيم ما فيه.
وإنما خص الموقنين بذلك، لأنهم المنتفعون به.

صفحة رقم 269

فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على ما يأتي:
١- امتن الله تعالى على بني إسرائيل بنعم ست هي التوراة، وفهم الكتاب أو الحكم بين الناس والقضاء في الخصومات، وإرسال كثير من الأنبياء فيهم وهم من عهد يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام، ورزقهم من طيبات الحلال من الأقوات والثمار وأطعمة الشام، وتفضيلهم على عالمي زمانهم، وإيتاؤهم بيّنات الأمر، أي دلائل الحق الواضحة، وشرائع الحلال والحرام، والمعجزات الداعية إلى الصدق والإيمان.
٢- لم يقع الخلاف بين بني إسرائيل بإيمان بعضهم وكفر بعضهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وتعريفهم بحقيقة الحال، وإدراكهم صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بوثائقهم الدينية وإخبار كتبهم وبشائرها بنبي آخر الزمان.
وكان خلافهم نابعا من الأغراض الذاتية، كالحسد والعداوة وحب الرياسة، لا من أجل المصلحة العامة.
وتحذيرا من هذا الخلاف توعدهم الله بقضائه الحاسم وحكمه العادل يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين في الدنيا.
٣- وبما أن الأمر المختلف فيه عقيدة وشريعة لا يصلح للبقاء والاستمرار، أوصى الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمته والبشرية كلها باتباع شريعة القرآن. والشريعة:
ما شرع الله لعباده من أمر الدين. وتلك الشريعة منهاج واضح يؤدي إلى الحق والسعادة والنجاة في الآخرة، لأنها تتضمن أوامر الله ونواهيه وحدوده وفرائضه الثابتة ثبوتا قطعيا لا شك فيه، أما ما قبلها فلم يقم دليل واحد على صحة ما يتناقله أهلها منها، أو ثبوته ثبوتا صحيحا من عند الله تعالى، لضياع

صفحة رقم 270

التوراة، وكتابة الإنجيل كتابة متأخرة عن تاريخ نزوله على السيد المسيح عليه السلام. فإن فرض ثبوت شيء من شرائع من قبلنا، فلا خلاف في أن الله تعالى جعل الشريعة واحدة في أصولها في التوحيد ومكارم الأخلاق ومصالح الناس، وإنما خالف بينها في الفروع الجزئية لا في الأصول حسبما تقتضي المصلحة في علم الله تعالى.
٤- قال ابن العربي المالكي الذي يرى كغيره من المالكية أن شرع من قبلنا شرع لنا: ظن بعض من يتكلم في العلم «١» أن هذه الآية: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، لأن الله تعالى أفراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء، هل يلزم اتباعه أم لا؟ ولا إشكال في لزوم ذلك «٢».
٥- إن القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على قلب نبيه براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والأحكام، بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورشد وطريق يؤدي إلى الجنة، ورحمة من العذاب في الآخرة لمن آمن واتقى.
جعلنا الله تعالى من القائمين بشرعه، المهتدين بهديه، المخلصين في اتباع أمره ونهيه، الظافرين بفضل الله ورحمته في الآخرة والدنيا.

(١) وهو رد على الشافعية الذين يرون أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ولهذه الآية.
(٢) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٨٢

صفحة رقم 271
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية