
وأورثنا أرضهم وديارهم قوما آخرين غيرهم وهل هم بنو إسرائيل أو غيرهم؟ الله أعلم، وإن كان التاريخ لا يثبت أن الإسرائيليين حكموا مصر، ولما هلك فرعون وآله وأشراف قومه وجنده فما بكت عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض «١»
هوانا بهم ولعدم الاكتراث لهم، وما كانوا منظرين في هذا بل حقت عليهم- لما أساءوا- كلمة ربك بالعذاب الشديد.
ولقد نجينا بنى إسرائيل من ظلم المصريين من العذاب المهين من فرعون وعمله فإنه كان يسومهم سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان عاليا متكبرا من المسرفين المتجاوزين الحدود في الشر والفساد.
ولقد اخترناهم واصطفيناهم وشرفناهم بإرسال الأنبياء منهم وجعل الملوك فيهم على علم منا باستحقاقهم ذلك ما داموا ينعمون بنعم الدين ويتمتعون بالعمل كما يأمر الله ويرضى، اخترناهم على علم منا وبصر على العالمين، أى: عالمي زمانهم لا كل العالم إذ أمة محمد خير أمة أخرجت للناس.
وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء لهم واختبار «وبلوناهم بالحسنات والسيئات» فانظروا يا آل مكة كيف فعل الله بفرعون وآله وهم أشد منكم قوة وأكثر مالا وأولادا، وعلما وحضارة؟! وانظروا كيف نجى موسى من فرعون ذي البطش والجند والسلطان؟! نعم العاقبة للمتقين والنصر في النهاية للمؤمنين الصابرين.
إنكار البعث والرد عليهم [سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٥٠]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣)
طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)

المفردات:
بِمُنْشَرِينَ: بمبعوثين، يقال: نشر الله الموتى وأنشرهم: إذا بعثهم تُبَّعٍ يقول القرطبي نقلا عن السبيلى: تبع اسم لكل ملك من ملوك اليمن والشحر وحضر موت- والظاهر أن الله- سبحانه- يتكلم عن واحد منهم كان معروفا عند العرب- يَوْمَ الْفَصْلِ: هو يوم القيامة، وسمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الناس مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم مَوْلًى المولى: يطلق على السيد وعلى العبد، وعلى ابن العم وعلى الناصر والقريب والصديق الزَّقُّومِ: شجرة الزقوم هي الشجرة الملعونة التي أنبتها الله في قعر جهنم الْأَثِيمِ: صاحب الإثم كَالْمُهْلِ المهل: هو عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن الْحَمِيمِ: الماء الساخن.

فَاعْتِلُوهُ: جرّوه وسوقوه بشدة وعنف. سَواءِ الْجَحِيمِ: وسط الجحيم تَمْتَرُونَ: تشكون.
الكلام من أول السورة مع مشركي مكة وقد تخلله ذكر قصة فرعون وقد ظهر فيها إصرارهم على الكفر والعناد، وكيف كانت عاقبتهم؟ ليبين لكفار مكة أنهم يشبهون قوم فرعون في إصرارهم على الكفر وأن عاقبتهم ستكون مثلهم.
وبعد ذلك عاد إلى الكلام الأول الذي يدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
المعنى:
إن هؤلاء- والإشارة للتحقير- أى: كفار مكة ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمبعوثين، كان يقال لهم: إنكم ستموتون موتة يعقبها حياة كما تقدمتكم موتة أعقبها حياتكم هذه رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فقالوا ردا على هذا: نسلم لكم أن لنا موتة تعقبها حياة لكن المراد بها الأولى فقط وهي حياتنا هذه بعد موتنا في ظهور آبائنا، أما الموتة التي بعد انقضاء الأجل فليس بعدها حياة. وما نحن بعدها بمبعوثين في حياة أخرى فكأنهم قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثم إنهم احتجوا على عدم البعث ونفى الحشر والنشر فقالوا: إن كان هذا حقا فأحيوا لنا من مات من آبائنا لنسأله عن دعواكم هذه، تلك شبهة واهية لم يعن القرآن بردها، وإنما أشار إشارة خفية إلى أن هؤلاء الناس قوم مغرورون بدنياهم وما هم فيه فضرب لهم الأمثال بقوم تبع ومن هم أشد منهم قوة وأكثر جمعا ومن هم أشد في إثارة الأرض وعمارتهم، لأن هذا الغرور يمنعهم من التفكير السليم فيما وراء الحياة الدنيا.
أهم خير وأشد قوة ومنعة أم قوم تبع في اليمن؟ بلاد الزرع والضرع والقوة والمنعة، هؤلاء أهلكناهم لما طغوا وبغوا وكفروا برسلهم، ومثلهم قوم عاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وقوم فرعون ذي الأوتاد أين هؤلاء منهم؟ فاحذروا يا آل مكة عاقبة كعاقبة هؤلاء أو أشد!! وكيف ينكرون البعث والآيات كلها شاهدة بذلك، وهذه السماء والأرض وهذا الكون كله شاهد عدل على وجود إله حكيم عليم قوى خبير عادل

في حكمه ما خلق هذا الخلق عبثا، ويستحيل أن يتركه هملا بل لا بد من يوم يحاسب فيه كل إنسان على ما قدم، ويثاب عن عمله، وخالق هذا الكون يستحيل عليه أن يسوى بين الظالم والمظلوم، والمؤمن والكافر والطائع والعاصي، بل لا بد من يوم الفصل، وليس الأمر بالهزل، وهذه الدنيا المحفوفة بالمكاره، القصيرة الأجل، الكثيرة الألم هي دار عمل، وليست دار جزاء وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «١» ما خلقناهم إلا متلبسين بالحق، وما خلقناهم إلا لإظهار الحق وإثابة كل عاص وطائع لأن هذا من أقوى دعائم الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وهذا هو الكلام على يوم الفصل وما فيه، وبدأ بالكلام على الأهوال التي يصادفها العصاة والكفار لعلهم يرتدعون.
إن يوم الفصل ميقات الناس جميعا، وإن يوم الفصل والقضاء بالعدل بين المسيء والمحسن والطائع والعاصي حتى يكون فريق في الجنة وفريق في السعير لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «٢». وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ «٣» فهذا هو يوم الفصل، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا. يوم لا ينفع فيه ابن والده ولا يجزى والد عن ولده، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا صديق حميم وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ «٤» إلا من رحمة الله تعالى بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله إنه هو العزيز الرحيم لمن أراد رحمته.
إن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم وهي طعام الآثمين العصاة وهي شجرة تنبت في قعر جهنم، فإذا جاع أهل جهنم التجأوا إليها فأكلوا منها، فيغلي الأكل في بطونهم كما يغلى الماء الحار، وهذا الأكل كالمهل، وهو يغلى في البطون كغلي الحميم، ثم يقال لزبانية جهنم: خذوه فجروه جرّا بعنف وشدة، خذوه فجروه إلى وسط جهنم ثم صبروا فوق رأسه عذابا وهو الحميم، ويقال للكافر حينئذ: ذق هذا إنك أنت العزيز الكريم، يقال له هذا تقريعا وتوبيخا على ما كان يزعمه وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «٥» ثم يقال لهم: إن هذا العذاب وما أنتم فيه الآن هو ما كنتم فيه تمترون وتشكون!!
(٢) - سورة الممتحنة آية ٣.
(٣) - سورة الروم آية ١٤.
(٤) - سورة البقرة آية ١٢٣.
(٥) - سورة الكهف آية ٣٦. [.....]