
٥١ - قوله تعالى: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ يعني: أنهار النيل، في قول المفسرين تجري من تحتي، قال مقاتل: يعني: أسفل مني (١)، كأنه أراد من تحت قصوره، وهو معنى قول الكلبي: حولي (٢)، وقال قتادة: بين يدي في جناتي (٣).
وقال الحسن: بأمر (٤)، وعلى هذا معناه: تجري تحت أمري، وهو معنى قول عطاء: في قبضتي وملكي (٥).
قوله: ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ قال ابن عباس: أفلا تبصرون ما أنا فيه من النعم والخير، وما فيه موسى من الفقر، افتخر عدو الله بملكه (٦).
٥٢ - قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ﴾ اختلف المفسرون وأهل التأويل في معنى (أم) هاهنا فقال أبو عبيدة: مجازها: بل أنا خير (٧)، وعلى هذا تمام الفصل عند قوله: أفلا تبصرون (٨) ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال: (أم أنا خير) على تأويل: أنا خير، وهذا قول مقاتل، قال: ليس باستفهام يعني: بل أنا خير، ونحو هذا قال السدي (٩).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٣) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٢١٧، والقرطبي ١٦/ ٩٨، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ٧٦ ونسبوه لقتادة.
(٤) نُسب للحسن في "تفسير البغوي" ٧/ ٢١٧، و"الوسيط" ٤/ ٧٦.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٨٦ ب.
(٦) ذكر هذا المعنى "الطبري" ١٣/ ٨١ ولم ينسبه، ونسبه في "الوسيط" لقتادة ٤/ ٧٧.
(٧) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢٠٤.
(٨) انظر: "القطع والاثتناف" للنحاس ص ٦٤٩، "المكتفى" للداني ص ٥٠٩.
(٩) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧، "تفسير الطبري" ١٣/ ٨١ فقد أخرج عن السدي.

وقال أبو إسحاق: قال سيبويه والخليل: عطف ﴿أَنَا﴾ بأم على ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ كأنه قال: أفلا تبصرون أم تبصرون، قال: لأنهم إذا قالوا له: أنت خير منه، فقد صاروا عنده بصراء، فكأنه قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء (١)، وهذا فيه بعض الغموض، ولا يقف عليه إلا من تأمل وتفكر.
وذكر صاحب النظم وجهًا حسنًا وهو: أن يكون تمام الكلام عند قولى: أم، وقوله: (أنا خير) فصل آخر مبتدأ، على تأويل: أفلا تبصرون أم تبصرون، فكيف ذكر (تبصرون) اكتفاء بذكره في قوله: (أفلا تبصرون) كما يقال في الكلام: أتاكل أم لا، فسكت على الاكتفاء بما قبله من ذكر الأكل، وكذلك يكون إذا قدمت النفي فتقول: ألا تأكل أم تأكل، ثم يكف، ذكر تأكل بعد (أم) اكتفاء بذكره في أول الكلام، فكذلك قوله: أفلا تبصرون أم تبصرون، فكف ذكر (تبصرون) عند (أم) لجري ذكره، وهذا معنى قول مجاهد: أم تام يقف، ثم أنا خير أفلا تبصرون أم قد أبصرتم (٢).
وقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ﴾ قال مقاتل: أفضل ﴿مِنْ هَذَا﴾ يعني: موسى ﴿الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ يعني: ضعيف ذليل (٣)، وقال الكلبي: ضعيف في بدنه (٤)، وقال الليث: رجل مهين صغير ضعيف (٥).
وقال الزجاج: معنى مهين قليل، يقال: شيء مهين أي: قليل، وهو
(٢) انظر: "المكتفى في الوقف والابتدا" للداني ص ٥٠٨، "تفسير الطبري" ١٣/ ٨١.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٥) انظر: "العين" للخليل (مهن) ٤/ ٦١، "تهذيب اللغة" (مهن) ٦/ ٣٢٩.

فعيل من المهانة (١).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ قال ابن عباس: لا يبين الكلام (٢)، وقال الكلبي: لا يكاد يبين حجته (٣)، وقال قتادة والسدي: آفة بلسانه (٤)، وقال الزجاج: يعني اللثغة (٥) التي كانت بلسان موسى (٦).
فإن قيل: أليس موسى سأل الله أن يذهب الرُّتَّةَ (٧) من لسانه بقوله: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: ٢٧ - ٢٨] أعطاه ذلك بقوله: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: ٣٦] فكيف عابه فرعون باللثغة؟ والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن فرعون أراد: لا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي، ولم يرد أنه لا يوضح ما يتكلم به، وهذا كذب من فرعون وعناد بعد ما رأى من الآية، هذا معنى قول مقاتل (٨).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٤٩٣.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٢، "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧، "الماوردي" ٥/ ٢٣٠.
(٥) قال الأزهري: أخبرني المنذري عن المبرد أنه قال: (اللثغة أن يُعدل بحرف إلى حرف) وقال الليث: الألثغ: الذي يتحول لسانه من السين إلى الثاء والمصدر: اللثغُ واللُّثْغَةُ، وقال أبو زيد: الألثغ: الذي لا يُتم رفع لسانه في الكلام وفيه ثقل. انظر: "تهذيب اللغة" (لثغ) ٨/ ٩٢.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٤١٥.
(٧) قال الليث: (الرُّتَّة: عجلة في الكلام. ورجل أرت). وقال ابن الأعرابي: رترت الرجل إذا تعتع في التاء وغيرها. انظر: "تهذيب اللغة" (رت) ١٤/ ٢٥٠، وقال ابن قتيبة عند قوله تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي﴾ أي: رَتَّةً كانت في لسانه. انظر: "تفسير غريب القرآن" ص ٢٧٨.
(٨) انظر: "تفسير مقاتل" ٣/ ٧٩٧.

والجواب الثاني: عابه مما كان عليه أولاً، وذلك أن موسى كان عند فرعون دهرًا وهو ألثغ لا يكاد يبين، فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرُّتَّةَ.
ويقوي الجواب الأول قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ ألا ترى أنه اقترح الآيات، ولم يكتف بما ظهر من معجزته، وليس للأمم أن يقترحوا من الآيات، ما يريدون، بل إذا أتى الرسول بما فيه دلالة على صدقه وجب الإيمان به.
واختلف القراء في ﴿أَسْوِرَةٌ﴾ فقرءوا بوجهين: أسورة وأساورة، فأسورة جمع سوار لأدنى العدد، كقولك: خِمَارٍ وَأَخْمِرَةٍ، وغُرَابٍ وأَغْرِبَة، ومن قال في سوار: أسوار، جمعه أساوير وأساورة، تكون الهاء عوضًا من الياء نحو: بطاريق وبطارقة، وزناديق وزنادقة، وقدادين وقدادنة، فيكون أساورة: جمع أسوار، وإن شئت فجمع أسورة، كما تقول: أساقٍ في جمع أسقية، وأساقي في جمع أسقية، هذا كلام المبرد (١).
وقال أبو زيد: هو سوار المرأة وأسوار المرأة، وهما قُلْبان يكونان في يديها (٢)، وأسورة جمع سوار مثل: سقاءٍ وأَسْقِيَةٍ، وإزارٍ وآزِرَة، وخوانٍ وأَخوِنَةٍ، وأساورة جمع أسوار، وألحق الهاء في الجمع عوضًا من الياء التي ينبغي أن تلحق في جمع أسوار، على حد إعصار وأعاصير، كذلك أسوار وأساور، ثم يقال: أساورة، ويجوز أن يكون جمع أسورة مثل أسقية وأساق، وهذا كلام أبي علي (٣).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (سور) ١٣/ ٥١.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ١٥١، "الكشف عن وجوه القراءات" لمكي ٢/ ٢٥٩.