
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾، أي: ولقد أرسلنا موسى بالحجج والآيات إلى أشراف قوم فرعون وآل فرعون كما أرسلناك يا محمد إلى قومك. فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين.
فلما جاءهم موسى بآياتنا وأدلتنا إذا هم منها يضحكون، أي: يهزءون ويسخرون كما فعل بك قومك يا محمد.
وهذا كله تسلية وتصبير للنبي ﷺ على ما ناله من قومه، فأعلمه أن ما نزل به من قومه قد نزل بمن كان قبله من الأنبياء فندبه تعالى إلى الصبر فقال: ﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل﴾ [الأحقاف: ٣٥].
قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ إلى قوله - ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾، أي: وما نرى آل فرعون من حجة على صدق ما جاءهم به موسى إلا هي أكبر من أختها، أي: هي أبين وآكد عليهم في الحجة من التي مضت قبلها.
ثم قال: ﴿وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي: (وأخذنا آل) فرعون بالجدب والسنين والجراد والقمل والضفادع والدم، لعلهم يتوبون إلى الله تعالى ويتركون الكفر. /

ثم قال: ﴿وَقَالُواْ يا أيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾، أي: وقال فرعون وملأه لموسى لما مسهم الضر بالجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: يا أيها الساحر ادع لنا ربك بعده الذي عهد إليك إنا آمنا بك واتبعناك إن كشف عنا الزجر.
وإنما خاكبوه بالساحر وهم يسألونه أن يدعو الله لهم ويعدوه بالإيمان، لأن الساحر عندهم: العالم، ولم يكن الساحر عندهم ذماً، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم.
وقيل: خاطبوه بذلك على عادتهم معه، ووعدوه أنهم سيؤمنون به فيما يستقبل، ومعنى: إننا لمهتدون، أي: إننا لمتبعوك ومصدقوك إن كشفت عنا العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾. في الكلام حذف،

والتقدير: فدعا موسى ربه أن يكشف عنهم العذاب فكشفه الله عنهم. فلما كشفه عنهم نكثوا وعدهم وتمادوا على كفرهم وتكذيبهم لموسى فنقضوا العهد الذي عاهدوا موسى عليه إن كشف الله عنهم العذاب.
قال قتادة: ينكثون: يغدرون.
ثم قال تعالى: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ الآية، أي: ونادى فرعون في قومه من القبط ﴿قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي﴾، أي: من بين يدي في الجنات.
قال قتادة: تجري من تحتي، قال: كانت له جنات وأنهار ماء.
وقوله: ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾: (معناه: أفلا تبصرون أيها) القوم ما أنا فيه من النعيم والملك وما فيه موسى من الفقر وَعَيَّ اللسان.

وقدره الأخفش: " أفلا تبصرون، أم تبصرون "، وقدره الخليل وسيبويه: " أفلا تبصرون، أم أنتم بصراء ".
ويكون " أم أنا خير " بمعنى: أم أنتم بصراء، لأنهم لو قالو له أنت خير لكانوا عند بصراء.
وقوله: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾، أي: قال فرعون لقومه: بل أنا خير من موسى الذي هو مهين لا عِزَّ له ولا ملك ولا مال يمتهن نفسه في حاجته.
" ولا يكاد يبين "، (أي: لا يبين) كلامه، للعقدة التي كانت فيه.
قال أحمد بن جعفر: تقف على " أفلا تبصرون "، ثم تبتدئ " أم أنا خير "، بمعنى: بل أنا خير.

قال أبو عبيدة: مجاز " أم " هنا، مجاز " بل ".
وقال يعقوب: الوقف: " أفلا تبصرون أم " ويبتدئ: " أنا خير ". وروى عن مجاهد أنه قال: " أفلا تبصرون أم " انقطع الكلام ثم قال: أنا خير من هذا الذي هو مهين "، وكذلك روي عن عيسى بن عمر.
والتقدير على هذا الوقف: أفلا تبصرون أم تبصرون فيتم الكلام.
ثم حذف " تبصرون " الثاني لدلالة الأول عليه فتقف على " أم " لأنها منتهى الكلام.
وقيل: إن من وقف على " أم " جعلها زائدة، وكأنه وقف على " تبصرون " من

قوله: " أفلا تبصرون ".
ولا يتم الكلام على " تبصرون " عند الخليل وسيبويه لأن " أم " تقتضي الاتصال بما قبلها. وقوله: " أنا خير من هذا الذي هو مهين " مع " أم " في موضع قوله: أم أنتم بصراء.
ثم قال تعالى: حكاية عن قول فرعون: ﴿فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ﴾، أي: فهلا كان في يد موسى أساورة ذهباً وواحد الأساورة: إسوار. وفي قراءة أبي: أَسَاوِرُ من ذَهَبٍ.
فهذا يدل على أن الواحد إسوار. ولكن لما دخلت الهاء في أساورة حذفت الياء لأنهما يتعاقبان في هذا النحو، نحو: دهاقين ودهاقنة، (وجحاجيح وجحاحجة)، وزناديق وزنادقة، الهاء عوض من الياء، والواحد دهقان وجحجاح وزنديق، وحسن انصرافه لدخول هاء التأنيث فيه.

وقال الزجاج: إنما انصرف لأنه له في الواحد نظيراً نحو علانية وعباقيه. وفيه ثلاث لغات حكاها الكسائي وغيره، يقال: إِسْوَار وسِوَار وسُوَار بمعنى.
وقيل: إن أساورة يجوز (أن يكون) جمع أسورة، وأسورة جمع سُوار وَسِوَار.
والعرب تسمي الرجل الحاذق بالرمي (بِأُسْوَارُ) إذا كان من رجال العجم.
وقوله: ﴿أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ﴾.
هذا من قول فرعون، أي: لو كان موسى صادقا لجاء معه الملائكة، قد اقترن بعضهم ببعض متتابعين، يشهدون بصدقه فيما يقول.
قال مجاهد: مقترنين: " يمشون معه ".
وقال قتادة: مقترنين: متتابعين، وقال السدي: " يقارن بعضهم بعضاً ".