
معصية ربه جحد نعمتنا وأيس من الخير، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة.
والخلاصة- إن الإنسان إن إصابته نعمة أشر وبطر، وإن ابتلى بمحنة يئس وقنط.
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطى من يشاء ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع.
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي يخلق ما يشاء فيرزق من يشاء البنات فحسب، ويرزق من يشاء البنين فحسب، ويعطى من يشاء الزوجين الذكر والأنثى، ويجعل من يشاء لا نسل له.
وفى هذا إيماء إلى أن الملك من غير منازع ولا مشارك، يتصرف فيه كيف يشاء، ويخلق ما يشاء، فليس لأحد أن يعترض أو يدبر بحسب هواه، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام، وقد قيل: ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه عليم بمن يستحق كل نوع من هذه الأنواع، قدير على ما يريد أن يخلق، فيفعل ما يفعل بحكمة وعلم.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده- أردفها تقسيم النعم الروحية، وأبان أن الناس محجوبون عن ربهم، لأنهم فى عالم المادة وهو منزه عنها، ولكن من رقّ حجابه، وخلصت نفسه، وأصبح فى مقدوره أن يتصل بالملإ الأعلى يستطيع أن يكلم ربه على أحد أوجه ثلاثة:
(١) أن يحس بمعان تلقى فى قلبه، أو يرى رؤيا منامية كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده.
(٢) أن يسمع كلاما من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلمه، فهو قد سمع كلاما ولم ير المتكلم.
(٣) أن يرسل إليه ملكا فيوحى ذلك الملك ما يشاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله أوحى إليه القرآن وما كان قبله يعلم ما القرآن وما الشرائع التي بها هداية البشر وصلاحهم فى الدارين.

الإيضاح
(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ) أي وما ينبغى لبشر من بنى آدم أن يكلمه ربه إلا بإحدى طرق ثلاث:
(١) (إِلَّا وَحْياً) أي إلا أن يوحى إليه وحيا أي يكلمه كلاما خفيا بغير واسطة بأن يقذف فى روع النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما
روى ابن حبان فى صحيحه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن روح القدس نفث فى روعى:
إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب».
(٢) (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي أو إلا من طريق لا يرى السامع المتكلم جهرة مع سماعه للكلام كما كلم موسى عليه السلام ربه.
(٣) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما جبريل أو غيره فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهى كما كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى غيره من الأنبياء.
روى البخاري فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها أن الحرث بن هشام رضى الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده علىّ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد (يسيل) عرقا».
(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي إنه علىّ عن صفات المخلوقين يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلمه تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة إما إلهاما وإما خطابا من وراء حجاب.

وبعد أن بين أقسام الوحى ذكر أنه أوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم كما أوحى إلى الأنبياء قبله فقال:
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك هذا القرآن رحمة من عندنا.
ثم بين حال نبيه قبل نزول الوحى بقوله:
(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت قبل الأربعين وأنت بين ظهرانى قومك تعرف ما القرآن ولا تفاصيل الشرائع ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك.
(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورا عظيما نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا، ونرشده إلى الدين الحق.
ونحو الآية قوله: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» الآية.
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتهدى بذلك النور من تشاء هدايته إلى الحق القويم.
ثم فسر هذا الصراط بقوله:
(صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هذا الطريق هو الطريق الذي شرعه الله مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه.
(أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ألا إن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله لا إلى غيره، فيضع كلا منهم فى موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم.
وفى هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم، ووعيد للظالمين.
(٥- مراغى- الخامس والعشرون)

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
(١) إنزال الوحى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) اختلاف الأديان ضرورى للبشر.
(٣) أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل.
(٤) اختلاف المختلفين فى الأديان بغى وعدوان منهم.
(٥) إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قامت الأدلة على صدقه.
(٦) استعجال المشركين لمجىء الساعة وإشفاق المؤمنين منها.
(٧) من يعمل للدنيا يؤت منها وماله حظ فى الآخرة، ومن يعمل للآخرة يوفقه الله للخير.
(٨) ينزل الله الرزق بقدر بحسب ما يرى من المصلحة.
(٩) من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض وجرى السفن فى البحار.
(١٠) متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا.
(١١) جزاء السيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله.
(١٢) يتمنى المشركون يوم القيامة العودة إلى الدنيا حين يرون العذاب.
(١٣) إذا عرض المشركون على النار نظروا إليها من طرف خفىّ وهم خاشعون أذلاء.
(١٤) ليس على الرسول إلا البلاغ.
(١٥) يهب الله لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.
(١٦) أقسام الوحى إلى البشر.
(١٧) الرسول قبل الوحى ما كان يدرى شيئا من الشرائع.