أي وبالسلاسل كما قرئ به أو في السلاسل كما في مصحف أبي، والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال، ونظيره قوله:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة | ولا ناعب إلا ببين غرابها |
والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبوهم بأنواع العذاب سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهرا وباطنا فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي يقال لهم ويقولون، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، والسؤال للتوبيخ، وضلالهم عنهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها، وهذا لا ينافي ما يشعر بآن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها صفحة رقم 338
واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل تبين لنا اليوم أنّا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئا يعتد به.
وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك، وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى:
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم، ومعنى قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم، ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق.
ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضا أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة، وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها، فإضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها، ونقل ذلك عن الحسن، وقيل في معناه غير ذلك.
وقوله تعالى: ذلِكُمْ إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهم بالسؤال، وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين، وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون وتأشرون كما قال مجاهد بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك، وفي ذلك الْأَرْضِ زيادة تفظيع للبطر وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسعون في الفرح، وقيل: المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى أولياءه من المكاره وبما كنتم تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة عن المنعم،
وفي الحديث «الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين»
وبين الفرح والمرح تجنيس حسن، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي الأبواب المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى، وهذا الأمر على ما استظهره في البحر مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار، ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول، ويجوز أن يقال: هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمرا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب، وقال ابن عطية: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا.
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بتعذيب أعدائك الكفرة حَقٌّ كائن لا محالة فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله فإن نرك فزيدت (ما) لتوكيد (إن) الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل: وإلى التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد. والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله:
فأما تريني ولي لمة... فإن الحوادث أودى بها
ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت- بما- يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ وهو القتل والأسر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك، وجوز أن يكون جوابا لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض. والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولا وذكر في [الرعد: ٤٠] في نظيرها أعني قوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين، قال في الكشف: والفرق أن قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الروم:
٦٠، غافر: ٥٥، ٧٧] عدة للإنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة والسلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جيء بالتقدير الثاني ردا لشماتتهم وأنه منصور على كل حال وإتماما للتسلي، وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وأنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية، فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا بما في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل.
وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب «يرجعون» بفتح الياء، وطلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان بفتح تاء الخطاب وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا ذوي خطر وكثرة مِنْ قَبْلِكَ من قبل إرسالك.
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا أوردنا أخبارهم وآثارهم عَلَيْكَ كنوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام،
أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا»
والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي، وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي.
وأيا ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه ﷺ بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس، ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزاع ما جرى، وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم، ولو سلم فلا يلزم من نفى ذكر الأسماء نفي ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم، على أن النفي بلم وهي على الصحيح تقلب المضارع ما ضيافا لمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصلاة والسلام جميعا بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآنا، وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى: رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: ١٦٤] لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وبالجملة الاستدلال بالآية على أنه ﷺ لم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك،
وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال: بعث الله تعالى عبدا حبشيا نبيا فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وسلم،
وعن ابن عباس بلفظ «إن الله تعالى بعث نبيا أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة والسلام»
والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له ﷺ قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقال: المراد أنه لم يذكر له ﷺ بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ، وأيضا لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك
وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليك من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله.
واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولا، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفا ولو قيل: إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولا أيضا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا: على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلا، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهل للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كمالهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث، وإن كان قد ورد قاطع من نبينا ﷺ أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأني به ثم إن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة: في صحة الخبر نظر وَما كانَ لِرَسُولٍ أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا والآخرة قُضِيَ بِالْحَقِّ بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه وَخَسِرَ هُنالِكَ أي وقت مجيء أمر الله تعالى اسم مكان استعير للزمان الْمُبْطِلُونَ المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى.
وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته.
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف، واللام للتعليل لا للاختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم، وقوله تعالى:
لِتَرْكَبُوا مِنْها إلخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالا، ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلا مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر، و (من) لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا (من) في قوله تعالى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وليس المراد على إرادة التبعيض إن كلا من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما. نعم كثيرا ما يعدون النجائب من الإبل للركوب، والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْها في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة.
وقال العلامة التفتازاني: إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة.
وتعقبه الخفاجي بقوله: لم يلح لي وجه جعل هذه الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا إنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى، ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضا في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار
والجلود ويقال: إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي أمرا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد، وهذا عطف على لتركبوا منها جاء على نمطه، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في النظم الجليل لنكتة.
قال صاحب الكشف: إن الأنعام هاهنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن من منافعها الركوب والحمل عليها، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيها على أنه أيضا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرا عنهما، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر، وقال صاحب الفرائد: إنما قيل وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجيء فيهما بما يدل على الاستقبال. وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق.
وقال القاضي: تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة، وقيل في توجيهه: يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار لتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان. ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى. وقال الزمخشري: إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جيء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم. وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم، ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: ٦٧] نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجها إن تم.
وقيل: تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك. وأما قوله تعالى:
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فكالتابع للأكل فأجري مجراه وهو كما ترى، وقوله تعالى: وَعَلَيْها توطئة لقوله سبحانه:
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل: وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار. وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب، وتقديم الجار قيل: لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل.
وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام وقيل: عَلَى الْفُلْكِ دون في الفلك كما في قوله تعالى: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: ٤٠] لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين، والمرجح لعلى هنا المشاكلة.
وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكي لا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف.
ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام
مقام امتنان وهو مقتض للتعميم، والظاهر ذاك، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى:
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: ١٧] كما يشعر به السياق، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي يُرِيكُمْ آياتِهِ
أي دلائله الدالة على كمال شؤونه جل جلاله أَيَّ آياتِ اللَّهِ
أي فأي آية من تلك الآيات الباهرةنْكِرُونَ
فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها من له عقل في الجملة. فأين للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة | ترى حبهم عارا علي وتحسب |
الرابع أن يجعل ضمير فَرِحُوا للكفرة وضمير عِنْدَهُمْ للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤوا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
الخامس أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم صفحة رقم 343
وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي.
السادس أن يجعل الضمير أن للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: ٧] ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم: ٣٠] فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا. وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم وفَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا ومنه قوله تعالى:
بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الأعراف: ١٦٥] قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، وإِيمانُهُمْ رفع بيك اسما لها أو فاعل يَنْفَعُهُمْ وفي يَكُ ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وهاهنا أربعة فاءات فاء فَما أَغْنى وفاء فَلَمَّا جاءَتْهُمْ وفاء فَلَمَّا رَأَوْا وفاء فَلَمْ يَكُ فالفاء الأولى مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مالية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: فَما أَغْنى عَنْهُمْ إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالث للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مترتب على قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ إلخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن فَلَمَّا جاءَتْهُمْ الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله، وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل.
وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر.
وعنه بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضا ومعنى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أن نمس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في بعض الآيات» على ما أشار إليه بعض السادات حم إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد ﷺ من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عزّ وجلّ ما يدل على عظيم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشارة المدعو ما فيه.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إلخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض وفي ذلك أيضا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عزّ وجلّ ما لا يخفى فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ من قبول وجودهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ إذ ليس في الدار غيره ديار الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من التجلي بِما كَسَبَتْ في بذل الوجود للمعبود لا ظُلْمَ الْيَوْمَ فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي دعائي وطلبي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ الحرمان والبعد مني داخِرِينَ ذليلين مهينين اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم. وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح وَالسَّماءَ بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله،
وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته»
وفي ذلك إشارة إلى رد أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠] ولله تعالى من قال:
ما حطك الواشون عن رتبة... عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثنوا ولم يعلموا... عليك عندي بالذي عابوا
والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرا لصفات القهر من رب العالمين وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.