آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ

وَالْجَبَّارُ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَالْجَبَّارُ: الَّذِي يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّونَ عَمَلَهُ لِظُلْمِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِإِضَافَةِ قَلْبِ إِلَى مُتَكَبِّرٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وَابْنُ ذكْوَان عَن ابْن عَامِرٍ بِتَنْوِينِ قَلْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرٍ وجَبَّارٍ صِفَتَيْنِ لِ قَلْبِ، وَوَصْفُ الْقَلْبِ بِالتَّكَبُّرِ وَالْجَبْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَقْصُودُ وَصْفُ صَاحِبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٣] لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِثْمِ كَمَا يُقَالُ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً
هَذِهِ مَقَالَةٌ أُخْرَى لِفِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي حَاجَّهُ فِيهِ مُوسَى وَلِذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُ بِالْوَاوِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا عَطَفَ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ آنِفًا، وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَالِكَ مُسْتَوْفَى عَلَى نَظِيرِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (هَامَانَ) وَالصَّرْحِ هُنَالِكَ.
وَقَدْ لَاحَ لِي هُنَا مَحْمَلٌ آخَرُ أَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فِي الْغَايَةِ وَيُخَالِفُهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحِ لَا لِقَصْدِ الِارْتِقَاءِ إِلَى السَّمَاوَاتِ بَلْ لِيَخْلُوَ بِنَفْسِهِ رِيَاضَةً لِيَسْتَمِدَّ الْوَحْيَ مِنَ الرَّبِّ الَّذِي ادَّعَى مُوسَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ إِذْ قَالَ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨]
فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ فِي مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ عَنِ النَّاسِ كَانَ مِنْ شِعَارِ الِاسْتِيحَاءِ الْكَهْنُوتِيِّ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَحْسَبُ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ وَحَامِي الْكَهَنَةِ وَالْهَيَاكِلِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَشْغَلُهُ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَمْلَكَةِ فَكَانَ يكل شؤون الدِّيَانَةِ إِلَى الْكَهَنَةِ فِي مَعَابِدِهِمْ، فَأَرَادَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْجَدَلِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّى لِذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ قَوْلُهُ الْفَصْلَ فِي نَفْيِ وُجُودِ إِلَهٍ آخَرَ تَضْلِيلًا لِدَهْمَاءَ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّوْطِئَةَ لِلْإِخْبَارِ بِنَفْيِ إِلَهٍ آخَرَ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى وَسَائِلَ النَّفْيِ بِنَفْسِهِ كَمَا

صفحة رقم 145

كَانَتْ لِلْيَهُودِ مَحَارِيبٌ لِلْخَلْوَةِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مَرْيَم: ١١] وَقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آل عمرَان: ٣٧] وَمِنِ اتِّخَاذِ الرُّهْبَانِ النَّصَارَى صَوَامِعَ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ لِلْخِلْوَةِ لِلتَّعَبُّدِ، وَوُجُودُهَا عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَمِ يدل على أَنه مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لَهُمْ وَالسَّابِقَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْأَسْبَابُ: جَمْعُ سَبَبٍ، وَالسَّبَبُ مَا يُوصِّلُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَيُطْلَقُ السَّبَبُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَبْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى أَعْلَى النَّخِيلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: طُرُقُ السَّمَاوَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:

وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَإِنْ يَرِقْ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَانْتَصَبَ أَسْبابَ السَّماواتِ عَلَى الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ لِقَوْلِهِ: الْأَسْبابَ. وَجِيءَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْمُرَادِ بِالْأَسْبَابِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَشَأْنِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ لِيُورِدَ عَلَى نَفْسِ مُتَشَوِّقِةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ نَفْسُ (هَامَانَ).
وَالِاطِّلَاعُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي الطُّلُوعِ، وَالطُّلُوعُ: الظُّهُورُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ظُهُورًا مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ أَوْ عَدَمُهُ بِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ فَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) فَهُوَ الظُّهُورُ مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) فَهُوَ ظُهُورٌ مُطْلَقٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَطَّلِعَ بِالرَّفْعِ تَفْرِيعًا عَلَى أَبْلُغُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْلَغُ ثُمَّ أَطْلَعُ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابَ التَّرَجِّي لِمُعَامَلَةِ التَّرَجِّي مُعَامَلَةَ التَّمَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُنْكِرُونَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَى بَلَغْتُ اطَّلَعْتُ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ هَاهُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ اسْتِعَارَةُ حَرْفِ الرَّجَاءِ إِلَى مَعْنَى التَّمَنِّي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ مَا تَرَجَّاهُ، وَجَعَلَ نَصْبَ الْفِعْلِ بَعْدَهُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ.
وَبَيْنَ إِلى وإِلهِ الْجِنَاسُ النَّاقِصُ بِحَرْفٍ كَمَا وَرَدَ مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:

صفحة رقم 146

وَجُمْلَةُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً مُعْتَرِضَةٌ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ (هَامَانُ) وَقَوْمُهُ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى أَوْهَنَتْ مِنْهُ يَقِينَهُ بِدِينِهِ وَآلِهَتِهِ وَأَنَّهُ يَرُومُ أَنْ يَبْحَثَ بَحْثَ مُتَأَمِّلٍ نَاظِرٍ فِي أَدِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ فَحَقَّقَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ إِلَّا نَفِيَ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى بِدَلِيلِ الْحِسِّ. وَجِيءَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الْمُعَزَّزِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ اتِّهَامَ وَزِيرِهِ إِيَّاهُ بِتَزَلْزُلِ اعْتِقَادِهِ فِي دِينِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ كَذِبُ مُوسَى.
وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عَزْمَهُ هَذَا كَيْدًا فِي قَوْلِهِ: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ.
وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ جُمْلَةُ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ فِرْعَوْنُ لِبَيَانِ حَالِ اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ أَقْوَالِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنْ ضَلَالِ اعْتِقَاد ومغريا بِفساد الْأَعْمَالِ. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ جَمِيعِ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ لَمْ تُفْصَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مِمَّا سَمَّوْهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ كَمَالِيِّ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ فِي بَابِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي. وَافْتِتَاحُهَا بِ كَذلِكَ كَافْتِتَاحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ أَي تَزْيِين عَمَلِ فِرْعَوْنَ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ تَزْيِينَ عَمَلِهِ لَهُ بَلَغَ مِنَ الْقُوَّةِ فِي نَوْعِهِ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ شِبْهٌ يُشَبَّهُ بِهِ فَمَنْ أَرَادَ تَشْبِيهَهُ فَلْيُشَبِّهْهُ بِعَيْنِهِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَفْعُولِ التَّزْيِينِ لَا مَعْرِفَةُ فَاعِلِهِ، أَيْ حَصَلَ لَهُ تَزْيِينُ سُوءِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ فَحَسِبُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالضَّلَالَ اهْتِدَاءً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصُدَّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ قَاصِرًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُتَعَدِّيًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصُدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ

صفحة رقم 147
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ تَصُولُ بِأَسْيَافٍ قَوَاضٍ قَوَاضِبٍ