
وكان مدار العداوة على هؤلاء الثلاثة وغيرهم تابعا لهم، فقالوا لما عجزوا عن معارضته ودفع الحجة بالحجة: إنه ساحر كذاب، ولكن موسى لم يعبأ بقولهم، وظل يقوم بدعوته، فلما جاءهم الحق من عند الحق- تبارك وتعالى- قالوا: اقتلوا من الآن أبناء الإسرائيليين الذين معه، واتركوا البنات يعشن فإن خطر الذكور كبير، ونخشى أن يتجمعوا ويكثروا، وفي هذا الضرر، ويظهر أن فرعون كان قد امتنع عن هذا مدة من الزمن، ولكن أنى لهم ذلك وعين الله لا تنام عن أوليائه وأحبائه؟ فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم حتى شغلهم ذلك عن استئصال بنى إسرائيل، فهم قد مكروا ومكر الله، وكان كيدهم في ضلال وخسران، ونجى الله المؤمنين وأغرق قوم فرعون أجمعين.
وقال فرعون في أثناء ذلك: ذروني أقتل موسى وانتهى من أمره، وليدع ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض ورب المشارق والمغارب وأنه الذي خلق كل شيء ثم هدى، ذروني أقتله وليدع ربه ليخلصه، يريد بذلك إنكار وجود الإله، إنى أخاف أن يبدل دينكم الحق- في اعتقاده- أو أن يظهر في الأرض الفساد إن لم يبدل دينكم.
هذا ما كان من أمر فرعون وآله، أما ما كان من أمر موسى إزاء هذا التهديد فها هو ذا: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وقال موسى: إن ربي وربكم الذي خلقنا ورزقنا، ورعانا في بطون الأجنة وفي ظلمات ثلاث، والذي وهب لنا الوجود وعمنا بالخير والبركات أستعيذ به من كل متكبر جبار تعاظم عن الإيمان، وكان لا يؤمن بيوم الحساب، ومن كان كذلك فهو إلى الوحشية أقرب، بل أشد طغيانا وظلما من الحيوان المفترس، ولنا في موسى وهو يستعيذ بالله من كل متكبر طاغ أسوة حسنة والله معنا يحرسنا ويرعانا إن شاء الله.
دفاع الرجل عن موسى [سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)

المفردات:
ظاهِرِينَ: غالبين بَأْسِ اللَّهِ: عذابه التَّنادِ المراد به: يوم القيامة.
وهكذا لا تذهب الدعوة إلى الله سدى بل لا بد من وجود من يدافع ويرد كيد الكائدين لها في مجتمع أعدائها، وقد كان ذلك مع موسى وفرعون، فأوجد الله في قوم فرعون رجلا مؤمنا حقا يكتم إيمانه فلم يعرفه أحد بأنه مؤمن، ويظهر أن الرجل كانت له مكانة في القوم حتى استطاع أن يدلى برأيه هذا.
قال: أتقتلون يا قوم رجلا لأنه يقول: ربي الله الذي خلق كل شيء وهو رب السموات والأرض، وقد جاءكم بالبينات والحجج الواضحات على أنه رسول من عند الله؟! فإن يك كاذبا فعليه وزر كذبه، ولا يضركم شيء فاتركوه وشأنه، ولا تتعرضوا

له ولأتباعه، وإن يك صادقا في الذي يحذركم به من عذاب الدنيا والآخرة فلا أقل من أنه يصيبكم بعض الذي يعدكم، واعلموا أن الله لا يهدى من هو مسرف في قوله وعمله وهكذا فيما يدعيه. وقد هدى الله الرجل إلى الحق فبعيد جدّا أن يكون كما تقولون:
مسرف كذاب.
المعنى:
وهذه مقالة الرجل الذي امتلأ قلبه بنور الإيمان، وخالط بشاشته برد اليقين فنظر إلى الدنيا نظرة الحكيم العاقل، فقال: يا قومي لكم الملك اليوم- ملك ظاهرى- حالة كونكم ظاهرين لا يعلو عليكم أحد غالبين لا يغلبكم أحد في أرض مصر، يا قوم لا تفسدوا أمركم، ولا تزيلوا عزكم بتعرضكم لهذا الرجل الذي يقول: ربي الله، ولا تتعرضوا لبأس الله، فإنه إن جاءنا لم يمنعه مانع، فمن ينصرنا من بأس الله؟
قال فرعون بعد سماعه لهذا الكلام: ما أريكم إلا ما أرى، ولا أشير عليكم إلا بقتله حتى نستريح، وما أهديكم بهذا الرأى إلا سبيل الرشاد وطريق الصواب.
وقال الذي آمن: يا قوم إنى أخاف عليكم يوما يجعل الولدان شيبا، يا قوم إنى أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية فقد أخذهم ربكم أخذ عزيز مقتدر، وحل بهم الخسف والإغراق، وما الله بهذا يريد ظلما للعباد، ولكن الناس أنفسهم يظلمون بتكذيبهم الأنبياء، وتعرضهم لهم بالسوء.
هذا الذي أخافه عليكم في الدنيا أما في الآخرة فإنى أخاف عليكم يوم التنادى الذي هو يوم القيامة، وما أكثر النداء فيه!! فيه ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار، وفيه ينادى أصحاب النار أصحاب الجنة، وينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم- كما ذكر هذا في سورة الأعراف- وينادى المنادى بالشقوة لأهل الشقاء، وبالسعادة لأهل السعادة وفيه تنادى الملائكة كلا بما يستحقه يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ إنى أخاف عليكم يا قوم يوم التنادى يوم تولون مدبرين هاربين ما لكم من الله من عاصم، وليس لكم من دونه ملجأ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل، وكل ميسر لما خلق له.