آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ

السابعة- إن الجرأة على إيذاء الناس أمران: أحدهما- كون الإنسان متكبرا قاسي القلب، والثاني- كونه منكرا للبعث والقيامة، وقد اتصف فرعون بالأمرين.
الثامنة- أجاب موسى عن استهزاء فرعون بقوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ: بأن ما ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين الحق، وأنا أدعو ربي، وأطلب منه أن يدفع شرك عني، وسترى كيف أن ربي يقهرك، وكيف يسلطني عليك.
وهو رد قولي وفعلي.
الخلاصة من هذا الدعاء: أن طريق دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم هو الاستعاذة بالله، والرجوع إلى حفظ الله تعالى.
- ٢- قصة مؤمن آل فرعون ودفاعه عن موسى عليه السلام
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)

صفحة رقم 109

الإعراب:
أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ منصوب بنزع الخافض، أي بأن يقول.
وَإِنْ يَكُ كاذِباً حذفت النون من يَكُ لكثرة الاستعمال، وهو رأي جمهور النحاة، أو تشبيها لها بنون الإعراب في نحو «يضربون» وهو قول المبرّد، والوجه الأول أوجه.
ظاهِرِينَ حال.
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ مِثْلَ: بدل منصوب من مِثْلَ الأول في قوله تعالى:
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ.
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ يَوْمَ بدل منصوب من يَوْمَ الأول في قوله تعالى:
يَوْمَ التَّنادِ.
الَّذِينَ يُجادِلُونَ.. الَّذِينَ: بدل منصوب من مِنْ في قوله تعالى: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ويجوز جعله خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين. ورأى السيوطي أن الَّذِينَ مبتدأ، وكَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ.. هو الخبر.
البلاغة:
كاذِباً وصادِقاً بينهما طباق.
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا.. استفهام على سبيل الإنكار.
كَذَّابٌ جَبَّارٍ من صيغ المبالغة.

صفحة رقم 110

المفردات اللغوية:
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ من أقاربه، فهو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته، وهو الظاهر، وقيل: إنه رجل إسرائيلي أو غريب موحد كان يجاملهم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أتقصدون قتله؟ أَنْ يَقُولَ لأن يقول: رَبِّيَ اللَّهُ وحده، وذلك من غير روية وتأمل في أمره وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات والبراهين الواضحات على وحدانية الله والدالة على صدقه مِنْ رَبِّكُمْ نسب الرب إليهم استدراجا لهم إلى الاعتراف به، ثم احتج عليهم بقوله:
وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ: لا يتخطاه وبال كذبه وضرره، فلا حاجة إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعضه. قال البيضاوي: وفيه مبالغة في التحذير، وإظهار للإنصاف وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذبا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ مشرك مفتر، فالمسرف: المقيم على المعاصي المكثر منها، والكذاب: المفتري. وهو احتجاج ثالث من وجهين: أحدهما- أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله إلى البينات، ولما عضده بتلك المعجزات، وثانيهما- أن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. وفيه تعريض بفرعون وتكذيب ربوبيته.
ظاهِرِينَ غالبين عالين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ من يمنعنا من عذاب الله إن قتلتم أولياءه؟ أي لا ناصر لنا، وإنما أدرج نفسه في ضميري الفعلين لأنه كان قريبا لهم، وليريه أنه معهم قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي، وهو قتل موسى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أدلكم إلا على طريق الصواب.
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ في تكذيبه والتعرض له مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي مثل أيام الأمم الماضية، يعني وقائعهم، والْأَحْزابِ الأقوام الذين تحزّبوا على أنبيائهم وكذبوهم، وكلمة يَوْمِ مفرد مضاف فيعم، فقد أغنى جمع الأحزاب عن جمع اليوم مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ...
أي مثل عادة وجزاء ما كانوا عليه من الكفر وإيذاء الرسل، بتعذيبهم في الدنيا واستئصالهم وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام، وهو أبلغ من قوله: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لأن المنفي فيه عدم تعلق إرادته بالظلم.
يَوْمَ التَّنادِ يوم القيامة، ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة، ويكثر فيه نداء أصحاب الجنة وأصحاب النار وبالعكس، فينادى بالسعادة لأهل الجنة، وبالشقاوة لأهل النار وغير ذلك

صفحة رقم 111

مُدْبِرِينَ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ من عذابه مِنْ عاصِمٍ مانع يعصمكم من عذابه.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ يوسف بن يعقوب عليه السلام، من قبل موسى عليه السلام بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرات الدالة على صدقه هَلَكَ مات يوسف لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا فيه تكذيب رسالته في حياته والكفر بها، وتكذيب رسالة من بعده كَذلِكَ مثل إضلالكم يُضِلُّ اللَّهُ في العصيان مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في معاصي الله مستكثر منها مُرْتابٌ شاك فيما شهدت به البينات على وحدانية الله ووعده ووعيده. سُلْطانٍ حجة قوية وبرهان ظاهر مَقْتاً المقت: أشد البغض كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ أي مثل إضلالهم يطبع (يختم) الله بالضلال على قلوب المتجبرين، ومتى تكبر القلب تكبر صاحبه، وبالعكس.
وقرئ بتنوين قَلْبِ وكُلِّ على القراءتين يراد به عموم الضلال جميع القلب، لا عموم القلب.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع شر فرعون الذي عزم على قتله، على الاستعاذة بالله، أبان تعالى أنه قيّض له رجلا من آل فرعون يدافع عنه، لتسكين الفتنة وإزالة الشر. واشتمل دفاعه على أمور ثلاثة كبري هي:
الأول- استنكار قتل موسى المؤمن بربه، المستضعف مع قومه في مواجهة قوم فرعون.
الثاني- تحذيرهم بأس الله في الدنيا والآخرة في المكذبين للرسل وهم جماعات الأحزاب كقوم نوح وعاد وثمود.
الثالث- تذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف عليه السلام من تكذيب رسالته ورسالة من بعده.

صفحة رقم 112

التفسير والبيان:
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ أي قال رجل من أقارب فرعون ورجال دولته: كيف تقتلون رجلا لا ذنب له إلا أن قال: الله ربي، والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات والأدلة الدالة على نبوته وصحة رسالته وصدقه؟
فهذا لا يستدعي القتل، فتوقف فرعون عن قتله، بسبب صدقه في الدفاع.
قال ابن عباس رضي الله عنهما- فيما رواه ابن أبي حاتم-: «لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل، وامرأة فرعون، والذي قال: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص ٢٨/ ٢٠].
والحق أنه كان لهذه الكلمة: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ تأثير عظيم في نفس فرعون، وقد كررها أبو بكر في محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله ص، أخرج البخاري في صحيحة عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ص، قال: بينا رسول الله ص يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله ص، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي ص، ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟.
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أيها الناس، أخبروني من أشجع الناس؟ قال: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس، قالوا:
لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله ص، وأخذته قريش، فهذا

صفحة رقم 113

يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا!! قال:
فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع- أي علي- بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: أنشدكم، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فو الله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه، وبذل ماله ودمه».
ثم أورد مؤمن آل فرعون ست حجج أخرى مفصلة لتأييد رأيه، فقال تعالى:
١- وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي إن كان هذا الرجل كاذبا في دعوته، كان وبال كذبه وإثمه عليه يجازيه الله في الدنيا والآخرة، فاتركوه، وإن كان صادقا في دعواه يصبكم بعض الذي يعدكم به إن خالفتموه من العقوبة الدنيوية والأخروية، فاتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وإنما قال: بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلأنه ص كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا أصابهم عذاب الدنيا، فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به.
والمراد أنه إذا لم يصبكم كل العذاب المتوعد به، فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفي بعض ذلك هلاككم.
٢- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي لو كان موسى مسرفا في قوله، متجاوزا حده، كذابا في دعواه النبوة، لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، ولو كان كاذبا على الله، خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله.

صفحة رقم 114

٣- يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ أي يا قومي، قد أنعم الله عليكم بهذا الملك الواسع، وأنتم الغالبون العالون على بني إسرائيل في أرض مصر، فلكم الكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله وتصديق رسوله ص، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله ص، فمن الذي يمنعنا من عذاب الله إن حل بنا؟ ولا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء.
وإنما قال: يَنْصُرُنا وجاءَنا لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم، وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه، وأنه حريص على دفع الشر عنهم، ليتأثروا بنصحه.
فرد فرعون بنصيحة فيها مراوغة، مظهرا أنه أخلص نصحا لقومه من هذا الرجل، فقال تعالى:
قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي قال فرعون مجيبا الرجل المؤمن: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، وما أدلكم وأدعوكم إلا إلى طريق الصواب الذي يؤدي إلى الفوز والنجاة والغلبة وهو قتل موسى. وقد كذب فرعون وافترى في قوله: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة، وكذب أيضا في قوله:
وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، ولكن قومه مع ذلك قد أطاعوه واتبعوه بسبب سلطانه ونفوذه، قال تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود ١١/ ٩٧] وقال سبحانه: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه ٢٠/ ٩٧]
جاء في الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن معقل بن يسار: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت، وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام».

صفحة رقم 115

٤- وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي لقد حذر هذا الرجل المؤمن الصالح قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، فبدأ بتخويف العذاب الدنيوي، فقال: يا قومي، إني أخشى عليكم إن كذبتم موسى أن يصيبكم مثلما أصاب الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوا رسلهم من الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم كقوم لوط، فقد حل بهم بأس الله، ولم يجدوا لهم ناصرا ينصرهم، ولا عاصما يحميهم. فقوله مِثْلَ دَأْبِ.. أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب.
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي لا يريد الله إلحاق ظلم بعباده، فلم يهلكهم بغير جرم، إنما أهلكهم بذنوبهم وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره.
ثم خوفهم العذاب الأخروي، فقال:
٥- وَيا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ويا قومي، إني أخشى عليكم عذاب يوم القيامة، حين ينادي بعضكم بعضا مستغيثا به من الأهوال، أو حين ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، كما قال تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قالُوا: نَعَمْ [الأعراف ٧/ ٤٤] وقال سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ [الأعراف ٧/ ٤٨]. وقال عز وجل: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف ٧/ ٥٠].
وحين تفرّون هاربين من النار، أو منصرفين عن الموقف إلى النار، لا تجدون واقيا ولا مانعا ولا عاصما يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه، وهذا تأكيد للتهديد.

صفحة رقم 116

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي من أضله الله، فلم يوفقه ولم يلهمه رشده، فلا هادي له غيره يهديه إلى الصواب والنجاة.
٦- وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ، فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ، حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أي أذكركم بأن تكذيب الرسل موروث لديكم من الآباء والأجداد، فلقد بعث الله لكم أي لآبائكم يا أهل مصر رسولا من قبل موسى عليه السلام هو يوسف بن يعقوب، وجاءكم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه، والآيات الواضحات المبينة لدين الله وشرائعه، فكذبتموه وكذبتم من جاء بعده من الرسل، وما زلتم في شك من البينات ولم تؤمنوا به، حتى إذا مات أنكرتم بعثة رسول من بعده، فكفرتم به في حياته، وكفرتم بمن بعده من الرسل بعد موته، مما يدل على توارث التكذيب، واستمرار العناد في مواجهة الرسل، والكفر برسالاتهم.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي مثل هذا الضلال وسوء الحال، يكون حال من يضله الله لإسرافه في المعاصي والاستكثار منها، وارتياب قلبه في دين الله، وشكه في وحدانية الله ووعده ووعيده.
وصفة هؤلاء المسرفين المرتابين ما حكاه تعالى:
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن أولئك المسرفين المرتابين هم الذين يجادلون في آيات الله ليبطلوها، بغير حجة واضحة ولا دليل بيّن، ويحاربون الحق بالباطل، كبر ذلك الجدل بغضا عند الله والمؤمنين، لأنه جدال بالباطل لا أساس له، أما مقت الله فهو تعذيبه العصاة، وأما مقت المؤمنين فهو هجر الكفار وترك التعامل معهم.

صفحة رقم 117

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين المسرفين، فكذلك يطبع ويختم على جميع قلوب المتكبرين الجبارين، الذين يتكبرون على اتباع الحق، ويتجبرون على الضعفاء بالإذلال والتسخير، والإهانة والقتل بغير حق. قال الشعبي وغيره: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين. وقال قتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق. وقال مقاتل: مُتَكَبِّرٍ عن قبول التوحيد جَبَّارٍ في غير حق. فهو في الأول يعادي الله، وفي الثاني يقسو على خلق الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لقد كان دفاع هذا الرجل المؤمن الصالح من آل فرعون في مجلس فرعون وسلطانه في غاية القوة والجرأة والعقل والمنطق.
٢- لا مسوغ لإنسان مهما كان أن يعتدي على الحرية الدينية ويصادرها، فكيف يصح أن يقتل رجل لا جرم له إلا أنه يقول: ربي الله؟
٣- لا عذر للناس في تكذيب الرسل والكفر بهم بعد أن يأتوهم بالمعجزات الباهرات والأدلة الواضحات على صدقهم.
٤- عجبا من مكذبي الرسل فإن منطقهم أعوج وتفكيرهم أخرق، فإن الرسول إذا كان كاذبا فعليه وزر كذبه ولا يتضرر به من لا يتبعه، وإن كان صادقا نفعهم صدقه، وسلموا من الآفات وألوان العذاب الذي يهدد به.
وقد استخدم المؤمن هذا الأسلوب: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ..
لا لشك منه في صحة رسالة موسى وصدقه، ولكن تلطفا في الدفاع، وبعدا عن الأذى، وإظهار للتجرد والموضوعية.

صفحة رقم 118

٥- إن الله تعالى لا يهدي أبدا إلى الحق أهل الإسراف في المعاصي والكذب، وإنه تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا كذابا، وهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين.
٦- إن من المستغرب حقا أن يخشى أصحاب السلطان والقهر المعتمدين على الجند أو الجيش أو العسكر المدجج بأنواع الأسلحة الفتاكة، من الأنبياء والرسل والقادة المصلحين الذين ليس لهم إلا البيان القوي، والحجة الهادفة، والكلمة المؤثرة. وما ذاك إلا لأن الحق فوق القوة وأثبت منها وأنفذ، لذا تهتز العروش بصوت الحق، ولا يتأثر أصحابها ببأس الأقوياء، وقوة الشجعان.
فهذا فرعون الطاغية ملك مصر يحذر رجلا عاديا هو موسى عليه السلام لا سند له من قوة مادية أو سلاح أو عسكر.
٧- كذلك لقد خوف هذا الرجل المؤمن قومه بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضا بهلاك الآخرة بقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فاهتز قلب فرعون.
٨- زاد هذا المؤمن في الوعظ والتخويف، وأفصح عن إيمانه، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم، بقوله الحق: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا [غافر ٤٠/ ٤٥] وصرح بالخوف من عذاب يوم القيامة- يوم التناد، حيث ينادي الناس بعضهم بعضا للاستغاثة، وينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار.
٩- وذكّرهم أيضا بالماضي السحيق، حيث جاء أسلافهم نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وذكّرهم قديم عتوهم على الأنبياء، فجاءهم يوسف بالشواهد القاطعة الدالة على صدقه، فكفروا به وكذبوه في حياته، وكفروا بالأنبياء من بعده، فأضلهم الله بعدئذ عن الحق والصواب.

صفحة رقم 119

١٠- ثم ختم المؤمن كلامه بالتحذير من بقاء قومه بالشك والإسراف، بسبب الجدال في حجج الله الظاهرة بغير حجة وبرهان، إما بناء على التقليد المجرد، وإما بناء على شبهات واهية، وهؤلاء المجادلون يغضب الله عليهم ويعذبهم في جهنم، ويبغضهم المؤمنون أشد البغض، وتصبح قلوبهم مغلقة لا ينفذ إليها الخير.
١١- ما أروع تلك الكلمات التي كان مؤمن آل فرعون يختم بها حججه وبراهينه!! فهي كما حكاها تعالى مع إقرارها دستور الحق، وسنة الله، وسبيل إقامة العدل، وأساس الحساب في الدار الآخرة، وتلك هي:
أ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض، أو إلى أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى، كذاب في إقدامه على ادعاء الألوهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يدمره ويهدم بنيانه.
ب- وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني أن تدمير الأحزاب الذين تحزنوا على الرسل، فكذبوهم وكفروا بهم، كان عدلا، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء.
ج- وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تنبيه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم بعد أن أكد التهديد بقوله: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ.
د- كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي مثل ذلك الضلال في الآباء والأجداد يضل الله من هو مشرك، شاكّ في وحدانية الله تعالى، مثل قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم ١٤/ ٢٧] وقول سبحانه: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة ٢/ ٢٦].

صفحة رقم 120
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية