آيات من القرآن الكريم

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ

"والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه" (١).
ومعنى ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: "في طاعة الله" (٢).
قال أهل المعاني: وسبيل الله هو الطريق الذي أمر بسلوكه، وهو العمل بطاعة الله (٣)، وإنما جُعل كالطريق لأنه يُستمر عليه في الطريق، ويؤدي إلى البغية كما يؤدي الطريق (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، أي: عن الهجرة ولزموا الإقامة على ما هم عليه (٥)، ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ بالأسر (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ قال ابن عباس: "يريد لا تتولوهم ولا تستنصروا بهم على عدوكم" (٧).
٩٠ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ الآية. الاستثناء راجع إلى القتل (٨)، لا إلى الموالاة، لأن موالاة المشركين والمنافقين حرام بكل حال.

(١) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (١٠) كتاب: الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده بلفظ: "والمهاجر من هجر" الحديث.
(٢) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٩٢.
(٣) انظر: الطبري ٥/ ٨٣، ١٦٩.
(٤) انظر: "المفردات" ص ٢٢٣.
(٥) "معاني الزجاج" ٢/ ٨٨، وانظر: الطبري ٥/ ١٩٧، و"بحر العلوم" ١/ ٣٧٤، و"الكشف والبيان" ٤/ ٩٦ أ.
(٦) انظر: "بحر العلوم" ١/ ٣٧٤، و"الكشف والبيان" ٤/ ٩٦ أ، والبغوي ٢/ ٢٦٠، و"زاد المسير" ٢/ ١٥٦.
(٧) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٩٢.
(٨) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٨١، و"مجاز القرآن" ١/ ١٣٦، والطبري ٥/ ١٩٧، و"معاني الزجاج" ٢/ ٨٩.

صفحة رقم 33

واختلفوا في معنى قوله: ﴿يَصِلُونَ﴾، فالأكثرون قالوا: معنى قوله: ﴿يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم بالحِلْف والجوار والالتجاء.
وبه قال الفراء (١) والزجاج (٢)، وعليه تفسير ابن عباس فإنه قال في رواية عطاء: "يريد يلجؤون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" (٣).
وقال أبو عبيدة: ﴿يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ﴾ أي ينتسبون، ووصل واتصل إذا انتسب (٤)، قال الأعشى:
إذا اتصلتْ قالتْ: أبكرَ بنَ وائلٍ... البيت (٥)
وبه قال ابن الأعرابي (٦) وعبد الله بن مسلم (٧).
وكلا القولين صحيح، وإن قال بعض الناس (٨) منكرًا قول أبي عبيدة

(١) "معاني القرآن" ١/ ٢٨١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٨٩.
(٣) ذكره البغوي ٢/ ٢٦٠، وأخرجه بمعناه من طريق عكرمة عن ابن عباس ابن أبي حاتم. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٤٢، وقد عزاه السيوطي أيضًا لابن جرير، ولم أجده عنده.
(٤) من "مجاز القرآن" ١/ ١٣٦ كما يدل عليه مضمون سياقه لبيت الأعشى في تفسير هذِه الآية وكلامه عليهن وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٠، و"الكشف والبيان" ٤/ ٩٦/ ب.
(٥) عجز هذا البيت هو:
وبكرٌ سَبتها والأنوفُ رواغمُ
وهو في ديوان الأعشى الكبير ص ١٨٠، و"مجاز القرآن" ١/ ١٣٦، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص١٣٠، والطبري ٥/ ١٩٨، و"الكشف والبيان" ٤/ ٩٦ ب. والشاهد منه قوله: "إذا اتصلت" أي: انتسبت.
(٦) "تهذيب اللغة" ٢/ ٢٣٥ (وصل).
(٧) ابن قتيبة في "غريب القرآن" ص١٣٠.
(٨) لعله يريد الطبري كما في "تفسيره" ٦/ ١٩٨ فقد رد هذا القول بشدة وتبعه في ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٤/ ١٦٤.

صفحة رقم 34

إن الانتساب لا يحقن الدم؛ لأنَّ الميثاق إذا عقد لقوم دخل في ذلك العهد كل من عد منهم في النسبة وانتسب إلى أبيهم.
واختلفوا في القوم الذين بينهم وبين (....) (١) فقال الحسن: هم بنو مُدْلِج (٢).
وقال ابن عباس في رواية الضحاك: هم بنو بكر بن زيد مَناة (٣).
وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناف، وبنو مُدلج (٤).
وقال الكلبي: هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي (٥).
وزاد عكرمة: وسراقة بن مالك بن جُعْشُم (٦)، وكان سيد بني مُدلج (٧).

(١) طمس في المخطوط بمقدار كلمتين تقريبًا، ولعله: "وبينكم ميثاق" أو "المؤمنين ميثاق".
(٢) "تفسير الهواري" ١/ ٤٠٧، و"النكت والعيون" ١/ ٥١٦، وانظر: "بحر العلوم" ١/ ٣٧٤، و"زاد المسير" ٢/ ١٥٦، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٥٨٥، و"الدر المنثور" ٢/ ٣٤٢.
(٣) ذكره البغوي في "معالم التنزيل" ٢/ ٢٦١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ١٥٨.
(٤) "تفسيره" ١/ ٣٩٥، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ١٥٨.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٩٦ ب، و"معالم التنزيل" ٢/ ٢٦٠، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٩٢.
(٦) هو أبو سفيان سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك المدلجي الكناني، صحابي شاعر وكان قائفًا، وقصته حين أرسله أبو سفيان في طلب الرسول - ﷺ - مشهورة. توفي رضي الله عنه سنة ٢٤ هـ.
انظر: "الاستيعاب" ٢/ ١٤٨، و"أسد الغابة" ٢/ ٣٣١، و"الإصابة" ٢/ ١٩.
(٧) أي: زاد عكرمة على قولي مقاتل والكلبي، والأثر أخرجه الطبري ٥/ ١٩٨، عن عكرمة بلفظ: "قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عمر بن عبد مناف".

صفحة رقم 35

وقوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ هذا وصف ثان معطوف على الوصف الأول للنكرة، وهو قوله: ﴿قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ (١).
وحصرت معناه: ضاقت (٢)، وكل من ضاق صدره بأمر فقد حصر ومنه قول لبيد:
جَرداء يَحصُر دونَها جُرَّامُها (٣)
يصف نخلة طويلة، يضيق قلبُ صارم ثمرها إذا نظر إلى أعلاها أن يرقى فيها لطولها (٤).
وذكرنا ما في هذا الحرف عند قوله: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] (٥).
واختلفوا في موضع قوله: ﴿حَصِرَت﴾ فالأكثرون قالوا: إنه في موضع الحال بإضمار قد (٦)، وذلك أن قد تقرب الماضي من الحال حتى

(١) انظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٩٦ ب، و"الكشاف" ١/ ٢٨٨، و"المحرر الوجيز" ٤/ ١٦٣، و"الدر المصون" ٤/ ٦٤.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ١٣٦، و"غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٠، والطبري ٥/ ١٩٨، و"الكشف والبيان" ٤/ ٩٦ ب.
(٣) عجز بيت للبيد وصدره كما في شعره ص (٤٣)، و"اللسان" ٢/ ١٩٥:
أعرضت وانتصبت كجذع منيفة
وقافيته في "اللسان": "صرامها" بالصاد، ومعنى جرداء: انجرد عنها سعفهان ويحصر: يتعب ويكل. وجرامها: قطاعها.
(٤) من "تهذيب اللغة" ١/ ٨٣٧ - ٨٣٨، وانظر: "اللسان" ٢/ ١٩٥ (حصر).
(٥) انظر: "البسيط" (النسخة الأزهرية) ١/ ل ١١٩، ١٢٠.
(٦) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٨٩، و"معاني الحروف" للرماني ص ٩٨، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤١، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٢٠٥، و"المحرر الوجيز" ٤/ ١٦٥، و"البحر المحيط" ٣/ ٣١٧، و"الدر المصون" ٤/ ٦٦.
وقد أشار كل من أبي حيان والسمين الحلبي إلى عدم الاحتياج إلى إضمار "قد" لكثرة ما جاء بدونها.

صفحة رقم 36

تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة، قبل حال قيامها وعلى هذا قول الشاعر:
أمُّ صبيِّ قد حبا أو دارج (١)
فكأنه قال: "أم صبي حاب أو دارج" (٢)، ولذلك عطف الاسم على الفعل.
فتأويل قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ قد حصرت، والعرب كثيراً ما تجعل الفعل الماضي حالًا. قال الفراء: العرب تقول: أتاني فلان ذهب.
[.. الآيات من ٩١ - ٩٣...] (٣).
(.. (٤)..) وخلف الوعيد كرم، والله تعالى أكرم الأكرمين، وعندنا يجوز أن يخلف الله تعالى وعيد المؤمنين (٥). وقد ذكرنا هذا فيما مضى من

(١) هذا شطر من الرجز وقبله:
"يا ليتني علقت غير خارج قبل الصباح ذات خلق بارج"
وهو في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢١٤، و"اللسان" ٣/ ١٣٥١ (درج)، إضافة إلى الآتي، وهو الذي أخذه منه المؤلف.
(٢) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤١.
(٣) إلى هنا نهاية صفحة: (أ) من لوحة (١٨) في نسخة: (ش)، وفي صفحة (ب) تكميل لتفسير الآية (٩٣) قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ [النساء: ٩٣]، فالظاهر وجود سقط هنا، وقد جعلت تفسير الآية (٩٣) في الصفحة التالية. وهذِه الجملة كاملة عند الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٨٢: "أتاني فلان ذهب عقله، يريدون: قد ذهب عقله...
(٤) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط.
وهذا الكلام للمؤلف بعد سقط في المخطوط أشرف إليه آنفًا وهذا السقط من تفسير الآية (٩٣) وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾ [النساء: ٩٣].
(٥) في هذا القول نظر لأنه مخالف لقوله تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩] بعد قوله: ﴿وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ﴾. =

صفحة رقم 37

هذا الكتاب. على أن هذا التغليظ إنما هو (.. (١)..) في الردع والزجر عن إقدام على قتل (.. (٢)..).
وإلى هذا أشار الزجاج فقال: "هذا وعيد شديد في القتل، حرم الله عز وجل به وحظر الدماء (٣).
وفي هذا يحمل (.. (٤)..) ابن عباس وغيره من السلف، أنهم قالوا: لا توبة للقاتل (٥)؛ لأن (٦) الأولى لأهل الفتوى سلوك سبيل التغليظ، [سيما في القتل] (٧) يدل على هذا ما روي أن سفيان (٨) سئل عن توبة القاتل،

= قال شيخ الإسلام ابن تيمية على هذِه الآية: "دليل على أن وعيده لا يبدل كما لا يبدل وعده... لكن التحقيق الجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وتفسير بعضها ببعض من غير تبديل شيء منها". "مجموع الفتاوى" ١٤/ ٤٩٨.
وانظر: "أصول الدين" للبغدادي ص ٢٤٣.
(١) كلمة غير واضحة، وأظنها: "للمبالغة" أو نحو ذلك.
(٢) كلمة غير واضحة، والظاهر أنها: "مؤمن".
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٩١.
(٤) غير واضح في المخطوط، والظاهر أنه: "ما قاله" أو "ما ذهب إليه".
(٥) قال بهذا القول إضافة إلى ابن عباس: زيد بن ثابت والضحاك بن مزاحم، وروي عن ابن عمر وأبي هريرة. انظر: الطبري ٥/ ٢٢٠، و"بحر العلوم" ١/ ٣٧٦، و"النكت والعيون" ١/ ٥٢٠.
قال البغوي -رحمه الله-: "والذي عليه الأكثرون، وهو مذهب أهل السنة: أن قاتل المسلم عمدًا توبته مقبولة لقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [طه: ٨٢]."... وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل". "معالم التنزيل" ٢/ ٢٦٧، وانظر: ابن كثير ١/ ٥٨٩.
(٦) في "الوسيط" للمؤلف ٢/ ٦٦٥: "فان" بالفاء.
(٧) ما بيِن القوسين غير واضح في المخطوط، والتسديد من "الوسيط" للمؤلف ٢/ ١٦٥.
(٨) هو ابن عيينة.

صفحة رقم 38
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية