
جرم ذكر اللَّه تعالى لفظ عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَقَالَ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: حَتَّى يُهَاجِرُوا عَنِ الْكُفْرِ، بَلْ قَالَ: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ مُهَاجِرَةُ دَارِ الْكُفْرِ وَمُهَاجِرَةُ شِعَارِ الْكُفْرِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ تَعَالَى عَلَى ذِكْرِ الْهِجْرَةِ، بَلْ قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّه، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ شِعَارِ الْكُفْرِ إِلَى شِعَارِ الْإِسْلَامِ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ وُقُوعُ تِلْكَ الهجرة لأجل أمر اللَّه تعالى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [النساء: ٨٩]. وَالْمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْهِجْرَةِ وَلَزِمُوا مَوَاضِعَهُمْ خَارِجًا عَنِ الْمَدِينَةِ فَخُذُوهُمْ إِذَا قَدَرْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَاقْتُلُوهُمْ أَيْنَمَا وَجَدْتُمُوهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلِيًّا يَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ مُهِمَّاتِكُمْ وَلَا نَصِيرًا يَنْصُرُكُمْ عَلَى أعدائكم.
[سورة النساء (٤) : آية ٩٠]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الكفار استثنى منه موضعين، الأول قوله تعالى:
[إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ] وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: يَصِلُونَ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: يَنْتَهُونَ إِلَيْهِمْ وَيَتَّصِلُونَ بِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي عَهْدِ مَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عَهْدِكُمْ فَهُمْ أَيْضًا دَاخِلُونَ فِي عَهْدِكُمْ. قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ أَنْ يَقْصِدَ قَوْمٌ حَضْرَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَذَّرَ عليهم ذلك المطلوب فيلجئوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ إِلَى أَنْ يَجِدُوا السَّبِيلَ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: يَصِلُونَ مَعْنَاهُ يَنْتَسِبُونَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا مُتَّصِلِينَ بِالرَّسُولِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَبَاحَ دَمَ الْكُفَّارِ مِنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ مَنْ هُمْ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ هُمُ الْأَسْلَمِيُّونَ فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ وَقْتَ خروجه إلى مكة هلال ابن عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى أَنْ لَا يَعْصِيَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى هِلَالٍ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَلَهُ مِنَ الْجِوَارِ مِثْلُ مَا لِهِلَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو بَكْرِ بْنِ زَيْدِ/ مَنَاةَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ خُزَاعَةُ وَخُزَيْمَةُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ بِشَارَةً عَظِيمَةً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ عَمَّنِ الْتَجَأَ إِلَى مَنِ الْتَجَأَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَبِأَنْ يَرْفَعَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ عَمَّنِ الْتَجَأَ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّه وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ كَانَ أَوْلَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الأولى: قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ بِالْمُعَاهَدِينَ أَوِ الَّذِينَ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَكُمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى صِفَةِ «قَوْمٍ» وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، أَوْ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فَلَا يُقَاتِلُونَكُمْ، والأوّل أولى لوجهين: أحدهما: قوله تعالى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [النساء: ٨٩] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ هُوَ تَرْكُهُمْ لِلْقِتَالِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى الِاحْتِمَالِ الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم وهو الِاتِّصَالُ بِمَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ. الثَّانِي: أَنَّ جَعْلَ تَرْكِ الْقِتَالِ مُوجِبًا لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الِاتِّصَالِ بِمَنْ تَرَكَ الْقِتَالَ سَبَبًا قَرِيبًا لترك التعرض، لا ن عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَرْكُ الْقِتَالِ سَبَبًا قَرِيبًا لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ، وَعَلَى السَّبَبِ الثَّانِي يَصِيرُ سَبَبًا بَعِيدًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ مَعْنَاهُ ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فَلَا يُرِيدُونَ قتالكم لأنكم مسلمون، ولا يريدون قتالهم لا نهم أَقَارِبُهُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِإِضْمَارِ «قَدْ» وَذَلِكَ لِأَنَّ «قَدْ» تُقَرِّبُ/ الْمَاضِيَ مِنَ الْحَالِ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَيُقَالُ أَتَانِي فُلَانٌ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَيْ أَتَانِي فُلَانٌ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ: وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ، أو جاؤكم حال ما قد حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، كأنه قال: أو جاؤكم ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَهُ فَقَالَ:
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَوْلُهُ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بَدَلًا من جاؤُكُمْ الثالث: أن يكون التقدير: جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رِجَالًا حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ:
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ نُصِبَ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ الْمُنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَأُقِيمَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ مَعْنَاهُ ضَاقَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَعَنْ قِتَالِ قَوْمِهِمْ فَهُمْ لَا عَلَيْكُمْ وَلَا لَكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّه تَعَالَى أَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ:
هُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ قَتْلَ الْكَافِرِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُعَاهِدًا أَوْ تَارِكًا لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، وَعَلَى هَذَا التقدير فالقول بالنسخ لا زم لِأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ:
إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ اسْتَثْنَى مَنْ لَهُ عُذْرٌ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَصَدُوا الرَّسُولَ لِلْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ فِي طَرِيقِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا إِلَيْهِ خَوْفًا مِنْ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، فَصَارُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ الْخَلَاصَ، وَاسْتَثْنَى بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ صَارَ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا يُقَاتِلُ الرَّسُولَ وَلَا أَصْحَابَهُ، لِأَنَّهُ يَخَافُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ، وَلَا يُقَاتِلُ الْكُفَّارَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَبْقَى أَوْلَادَهُ وَأَزْوَاجَهُ بَيْنَهُمْ، فَيَخَافُ لَوْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا أَوْلَادَهُ وَأَصْحَابَهُ، فَهَذَانِ الْفَرِيقَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمُ الْهِجْرَةُ وَلَا مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ التَّسْلِيطُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَاطَةِ وَهِيَ الْحِدَّةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِكَفِّ بَأْسِ الْمُعَاهَدِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ضِيقَ صُدُورِهِمْ عَنْ قِتَالِكُمْ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ اللَّه قَذَفَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى قَوَّى قُلُوبَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّه تَعَالَى تَسْلِيطُ الكفار عَلَى الْمُؤْمِنِ وَتَقْوِيَتُهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ