آيات من القرآن الكريم

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ

هذه الآيات وتدبرها بصادق النظر والإمعان. وقد اهتدى إلى ذلك الفاضل المهايميّ في تفسيره. فاقتصر على هذا الوجه فقال: وهم الذين استأذنوا رسول الله ﷺ في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة. فلم يزالوا يرتحلون مرحلة بعد أخرى حتى لحقوا المشركين. انتهى. وقول السيوطيّ: في إسناد رواية عبد الرحمن بن عوف عند أحمد تدليس وانقطاع. لا يقدح في إصابتها كبد الحقيقة. لأنها وجدت فيها قرينة تلحقها بالمقبول وهو موافقتها لألفاظ الآية بلا تكلف. وحينئذ فقول زيد بن ثابت:
فنزلت فيما تقدم بمعنى أنها تشمل ما وقع من المنخزلين عن أحد وما جرى من اختلاف المؤمنين في شأنهم. لا أنّ ما وقع كان سببا لنزولها. واستعمال النزول بذلك معروف كما بيناه في المقدمة. وإلا لأشكل قوله تعالى: (إلا أن يهاجروا). إذ لم تطلب المهاجرة إلا من النائين عن المدينة. وأولئك، أعني الذين انخزلوا عن المسلمين في أحد، كانوا بها. فيحتاج إلى جعل المهاجرة بمعنى خروجهم مع رسول الله ﷺ والمؤمنين، صابرين محتسبين مخلصين. كما قاله بعض المفسرين.
وهذا المعنى لم يشع في المهاجرة. ولأشكل أيضا قوله تعالى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. فإنه يفيد بأنهم ليسوا من منافقي أهل المدينة. وإنه يتوقع الظفر بهم. وإلا فمنافقوها بين ظهرانيهم ليلا ونهارا. فالظاهر في هذا المقام رواية ابن عوف. وفي آخر رواية زيد ما يشعر بها حيث قال: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث.
إشارة إلى أن المدينة نفت هؤلاء الذين نزحوا عنها بعد إسلامهم. والله أعلم. ثم استثنى عن أسر المرتدين وقتلهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ٩٠]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ يلجئون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي: عهد بهدنة أو أمان فاجعلوا حكمهم كحكمهم لئلا يفضي إلى قتال من وصلوا إليهم فيفضي إلى نقض الميثاق أَوْ جاؤُكُمْ
عطف على الصلة أي: والذين جاءوكم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار (قد) أي: ضاقت وانقبضت نفوسهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ

صفحة رقم 253

لإرادتهم المسالمة أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي: معكم من أجلكم لمكان القرابة منهم.
فهم لا لكم ولا عليكم. قال أبو السعود: استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: أحدهما- من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن. أن سراقة ابن مالك المدلجيّ حدثهم قال: لما ظهر النبيّ ﷺ على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج. فأتيته فقلت: أنشدك النعمة. بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي. وأنا أريد أن توادعهم.
فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام. وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم. فأخذ رسول الله ﷺ بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد. فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أسلمت قريش أسلموا معهم. وأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
. فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. وفي قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن في التعرض لقتلهم إظهارا لقوتهم الخفية فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي تركوكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الانقياد والاستسلام فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي طريقا بالأسر أو القتل. إذ لا ضرر منهم في الإسلام. وقتالهم يظهر كمال قوتهم.
لطيفة:
قال الخفاجيّ (السلم) بفتحتين: الانقياد. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين وكسرها. وكأن إلقاء السلم استعارة. لأنّ من سلّم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلّم له.
وعدم جعل السبيل مبالغة في عدم التعرض لهم، لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له؟
تنبيه:
ظاهر النظم الكريم أن الفريقين المستثنيين من الكفار. وحاول أبو مسلم الأصفهانيّ كونهما من المسلمين حيث قال: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم، استثنى من له عذر. فقال: إلا الذين يصلون، وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة. إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار. فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد.
وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص. واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول، ولا

صفحة رقم 254
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية