آيات من القرآن الكريم

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ

وأراد ذلك منه، وهذا خلاف مذهب القدرية. ومحل قوله: ﴿لِيُطَاعَ﴾ نصب، لأن المعنى: وما أرسلنا رسولًا إلا مفروضًا له الطاعة (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد بعصيانهم إياك وموالاتهم الكفار حتى يُحكِّموهم ويتحاكموا إليهم (٢).
وقوله تعالى: ﴿جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ﴾ قال: يريد نزعوا وتابوا إلى الله (٣).
وقال الزجاج: المعنى في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إلى آخر الآية: ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم أنفسهم مع استغفارهم ﴿لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ (٤).
٦٥ - قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية. دخول (لا) في أول الكلام يحتمل معنيين:
أحدهما: أن (لا) ردّ لكلام سبق، كأنه قيل: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك. ثم استؤنف القسم بقوله: ﴿وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ (٥).
الثانى: أن (لا) توطيدٌ للنفي الذي يأتي فيما بعد، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وآخره كان أوكد وأحسن، لأن النفي يتصدر الكلام وقد اقتضى

(١) انظر: "الدر المصون" ٤/ ١٨.
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٦٠٦، دون نسبة لابن عباس، وذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ١٢٣.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٨٨
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٧٠.
(٥) "تفسير الطبري" ٥/ ١٥٨، "الكشف والبيان" ٤/ ٨٣ ب، وانظر: "الدر المصون" ٤/ ١٩.

صفحة رقم 560

القسم أن يذكر في الجواب (١).
واختلفوا في هذه الآية، فذهب عطاء مجاهد والشعبي، أن هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق، وأن هذه الآية متصلة بما قبلها (٢).
وهو اختيار الزجاج (٣).
وقال آخرون: هذه مستأنفة، نازلة في قصة أخرى، وهي ما روي عن عروة بن الزبير: أن رجلًا من الأنصار (٤) خاصم الزبير في شراج الحرّة (٥) التي يسقي بها (كلاهما) (٦)، فقال رسول الله - ﷺ - للزبير: "اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" وقضى للزبير على الأنصاري، فقال الأنصاري: إنك تُحابي ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله - ﷺ -، ثم قال

(١) انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٢٨٤، "الدر المصون" ٤/ ١٩.
(٢) أخرج الأثر عن مجاهد والشعبي الطبري ٥/ ١٥٩ - ١٦٠، وابن المنذر عن مجاهد. انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٣٢٢. وانظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٨٣ ب، "النكت والعيون" ١/ ٥٠٣، "معالم التنزيل" ٢/ ٢٤٥، "الرازي" ١٠/ ١٦٣ ونسبه الرازي إلى عطاء. واختاره ورجحه الطبري ٥/ ١٦٠، وابن العربي في "أحكام القرآن" ١/ ٤٥٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٧٠.
(٤) قيل: هو: حاطب بن أبي بلتعة، وقيل: ثعلبة بن حاطب. انظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص ١٥٥، "معالم التنزيل" ٢/ ٢٤٥.
(٥) الشراج: جمع شرج وهو مجرى الماء، والحرة: موضع بالمدينة، أرض ذات حجارة سوداء. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ٢/ ١٦٠، "اللسان" ٢/ ٨٢٨ (حرر).
(٦) غير واضحة في (ش)، وانظر: "أسباب النزول" للمؤلف ص ١٦٧ - ١٦٨. وقد رجح محمود شاكر في تحقيقه للطبري ٨/ ٥١٩ أن تكون هذِه الكلمة: "كلاهما" وهو العشب.

صفحة رقم 561

للزبير: "اسق، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" (١). قال الزبير: والله إن هذه الآية نزلت في ذلك ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية (٢).
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء، وحقه تمام السقي، وتمامه أن يبلغ الماء الجدر (٣) وأقل السقي ما سمي سقيًا. قال الزهري (...) (٤) ماء الأنهار قول النبي - ﷺ -: "حتى يبلغ الماء الجذر" فكان ذلك إلى الكعبين.
وأمر رسول الله - ﷺ - الزبير (....) (٥) على المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب، ولم يعرف حق ما أمره به النبي من المسامحة (لأجل) (٦) أمره النبي - ﷺ - باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق (٧).
وقوله تعالى: ﴿شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾. يقال: شجر بينهما من خصومة (أي اختلف واختلط) (٨).

(١) "الجدر: بفتح الجيم وكسرها... والمراد بالجدر أصل الحائط، وقيل أصول الشجر والصحيح الأول".
"صحيح مسلم" ٤/ ١٨٣٠ حاشية (٤)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" ١/ ٢٤٦.
(٢) أخرجه البخاري (٤٥٨٥) في التفسير سورة: النساء، باب: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك..﴾ ٥/ ١٨٠، ومسلم (٢٣٥٧) في الفضائل، باب: وجوب اتباعه - ﷺ -، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٦٠٧، "أسباب النزول" ص١٦٧ - ١٦٨.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٣.
(٤) كلمة غير واضحة في (ش) ويمكن أن تقدر بـ: [وذلك في] ماء الأنهار.
(٥) غير واضح بقدر كلمتين، ويبدو أنها "أن يسقي" أو نحوها، انظر: "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٣.
(٦) هكذا في المخطوط، وفي "التفسير الكبير" للرازي ١٠/ ١٦٣: "لأجله"، وهو أصوب.
(٧) انظر: "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٣.
(٨) ما بين القوسين غير واضح تمامًا، وانظر: "الوسيط" للمؤلف ٢/ ٦٠٩.

صفحة رقم 562

قال الفراء: يشجر (١) شجورًا وشجرًا. وشاجره في الأمر إذا نازعه في الأمر مشاجرة وشجارًا. وتشاجروا تشاجرا واشتجروا، وكل ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض، (ومنه) (٢) يقال لخشبات الهودج شجارٌ لتداخل بعضها في بعض (٣).
قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بالمشاجرة: المنازعة (٤).
وقال الضحاك و (...........) (٥). وقال الكلبي: فيما التبس بينهم (٦) وذلك أن الاختلاط والتداخل يؤدي إلى الالتباس.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾.
أصل الحرج في اللغة الضِّيق، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه: حرج، وجمعه حراج (٧)، ومنه قول العجاج:
عاين حيًّا كالحراج نعمه (٨)

(١) في "الوسيط" ٢/ ٦٠٩: (شجر يشجر).
(٢) غير واضحة تمامًا، وانظر: "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٣.
(٣) كلام الفراء ليس في "معاني القرآن"، فقد يكون في كتابه المفقود: "المصادر"، وانظر: الطبري ٥/ ١٥٨، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٣٠، "مقايس اللغة" ٣/ ٢٤٦ (شجر)، "الوسيط" ٢/ ٦٠٩، "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٣.
(٤) لم أقف عليه، وقد قال السيوطي: أخرج الطستي عن ابن عباس... ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ قال: "فيما أشكل عليهم"، "الدر المنثور" ٢/ ٣٢٣.
(٥) ما بين القوسين بياض في (ش)، ولم أقف على قول للضحاك في تفسير هذِه الآية.
(٦) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٨٨.
(٧) انظر: الطبري ٥/ ١٥٨، "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ١٢٩، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٥٥، "الصحاح" ١/ ٣٠٦ (حرج)، "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٤.
(٨) نسبه في "الصحاح" ١/ ٣٠٦ (حرج) لرؤبة بن العجاج، وفي "اللسان" ٢/ ٨٢٢ (حرج). وهو صدر بيت من الرجز، عجزه:
يكون أقصى شدِّه محر نجمه

صفحة رقم 563

وسنذكر هذا بأبلغ من هذا الشرح عند قوله: ﴿ضَيِقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥] إن شاء الله.
قال ابن عباس في قوله: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾: يريد ضيقًا مما قضيت، يريد: يرضوا بقضائك (١). وكذا قال أبو العالية: حرجًا أي ضيقًا (٢).
وقال مجاهد: شكا (٣)، أي لا تضيق صدورهم عن قضيتك.
وقوله تعالى: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ التسليم تفعيل من السلامة، يقال: سلم فلان، أي: عوفي ولم تنشب به بلية. وسلم هذا الشيء لفلان، أي: خلص له من غير منازع ولا مشارك. فإذا ثقلته بالتشديد فقلت: سلّم له، فمعناه أنه خلصه له ولم يدع فيه (٤).
هذا هو الأصل في اللغة. وجميع معاني التسليم راجع إلى هذا الأصل، فقولهم: سلّم عليه، أي دعا له بأن يسلم. وسلم إليه الوديعة، أي أخلصها له وخلى بينها وبينه. وسلم له، أي: بذل الرضا بحكمه، على معنى: ترك السخط والمنازعة. وكذلك: سلم لفلان ما قال، أي أخلصه له

= والشاهد أن النعم وهي الإبل كالحراج وهي الشجر الملتفة الكثيرة.
(١) في "زاد المسير" ٢/ ١٢٤ أن ابن عباس فسر الحرج هنا بالشك كقول مجاهد الآتي وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ٨٨، وعنه أيضاً: (هما وحزنًا). انظر: "البحر المحيط" ٣/ ٢٨٤. وممن فسر الحرج بالضيق أبو عبيدة في "مجازة" ١/ ١٣١، والطبري ٥/ ١٥٨، والزجاج في "معانيه" ٢/ ٧٠.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تفسيره" ١/ ١٦٤، وأخرجه الطبري ٥/ ١٥٨.
(٤) انظر: "مقاييس اللغة" ٣/ ٩٠، "المفردات" للراغب ٢٣٩ - ٢٤٠.

صفحة رقم 564

من غير معارضة فيه. وكذلك: سلم إلى الله أمره، أي فوض إليه على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرًا ولا شركة وعلم أن المدبر والصانع هو الله وحده لا شريك له. هذا معنى التسليم.
وأما التفسير: قال ابن عباس: ويسلموا الأمر إلى الله وإلى رسوله (١).
وقال الزجاج: أي يسلِّمون لما يأتي من حكمه (٢)، ولا يعارضونه بشيء (٣).
و (تسليمًا) مصدر مؤكد، والمصادر المؤكدة بمنزلة ذكر الفعل ثانيًا فإذا قلت: سلمت تسليمًا، فكأنك قلت: سلمت سلمت. وحق التوكيد أن يكون محققًا لما تذكره في صدر كلامك، فإذا قلت: ضربت ضربًا، فكأنك قلت: أحدثت ضربًا أحقه ولا أشك فيه، فكذلك ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أي: يسلِّمون لحكمك تسليمًا لا يدخلون على أنفسهم شكًا (٤).
وقد أخبر الله تعالى أنه لا يتم إيمانهم حتى يعتقدوا وجوب المراجعة في خصوماتهم وتحكيمه والرضا بحكمه من غير ضيق صدر ولا كراهة، وأن من تسخط حكم النبي - ﷺ -، وارتاب (....) (٥) أو عدل إلى غيره رغبة عنه، غير مسلم له، فهو كافر (٦).

(١) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص (٨٨).
(٢) في "معاني الزجاج" ٢/ ٧١: حكمك.
(٣) "معاني الزجاج" ٢/ ٧١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ٧١، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٢/ ١٢٩، "المحرر الوجيز" ٤/ ١٢١، القرطبي ٥/ ٢٦٩، "البحر المحيط" ٣/ ٢٨٤.
(٥) هنا بياض بقدر حرفين، فقد يكون الساقط: "فيه" والله اعلم.
(٦) انظر: "التفسير الكبير" ١٠/ ١٦٥.

صفحة رقم 565
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية