آيات من القرآن الكريم

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ

وتعالى للمتظلم: ارفع بصرك فانظر في الجنان. فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق، أو لأي شهيد هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: بماذا يا رب؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب، قد عفوت عنه. فيقول الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة»
«١».
فَكَيْفَ يصنع الكفار يوم القيامة إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أي قوم بِشَهِيدٍ أي بنبي يشهد على قبح أعمالهم وَجِئْنا بِكَ يا أشرف الخلق عَلى هؤُلاءِ الشهداء وهم الرسل شَهِيداً (٤١) فتشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم. ويقال: وجئنا بك لأمتك مزكيا معدلا لأن أمته صلّى الله عليه وسلّم يشهدون للأنبياء على قومهم إذا جحدوا بالبلاغ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢) أي يوم مجيء ذلك يتمنى الذين كفروا بالله وعصوا أمر الرسول أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. ويقال: يتمنون أن يصيروا ترابا مع البهائم لعظم هول ذلك اليوم ولا يقدرون أن يكتموا من الله حديثا بأن يقولوا: والله ربنا ما كنا مشركين أي إنهم يريدون الكتمان أولا لما علموا أن الله لم يغفر شركا فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين رجاء غفران الله لهم. لكنهم تشهد عليهم الأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي لا تقيموا الصلاة حال كونكم سكارى من الشراب إلى أن تعلموا قبل الشروع فيها ما تقولونه ولا تقيموها حال كونكم جنبا إلا حال كونكم مسافرين. وقيل: إن «إلا» بمعنى غير، وهو صفة ل «جنبا». والمعنى لا تقيموها حال كونكم جنبا غير مسافرين وسيأتي حكم المسافرين حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا يمنع من استعمال الماء أو مسافرين طال السفر أو قصر، أو أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين أو تلاقت بشرتكم مع بشرة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به للصلاة بعد الطلب فاقصدوا أرضا لا سبخة فيها فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إلى المرفقين بضربتين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) وهذا كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته أنه يعفو عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى. أَلَمْ تَرَ أي تنظر إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً

(١) رواه الحاكم في المستدرك (٤: ٥٧٦)، والمنذري في الترغيب والترهيب (٣: ٣٠٩)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (٤: ٥٠٧)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦: ٢٦٧)، وابن أبي الدنيا في حسن الظن (١١٦).

صفحة رقم 199

أي حظا يسيرا مِنَ الْكِتابِ أي من علم التوراة يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ أي يؤثرون تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة. كما قاله الزجاج وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) أي ويتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الإسلام وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أي هو سبحانه وتعالى أعلم بكنه ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي متصرفا في جميع أموركم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) في كل موطن فثقوا به.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن اليسع ورافع بن حرملة- حبرين من اليهود- دعوا رئيس المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه إلى دينهما. ثم نزل في مالك بن الصيف وأصحابه قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي من اليهود قوم يغيرون الكلم التي أنزل الله في التوراة عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها كتحريفهم في نعت النبي (أسمر ربعة) فوضعوا مكانه (آدم طوال). وتحريفهم في (الرجم) فوضعوا بدله (الجلد). ويقولون في الظاهر إذا أمرهم النبيّ عليه السلام: سمعنا قولك، وفي أنفسهم وعصينا أمرك. ويقولون في أثناء مخاطبة النبيّ عليه
السلام كلاما ذا وجهين وهو محتمل للخير والشر، مظهرين المدح ويضمرون الشتم وهو: واسمع منا غير مسمع مكروها. والمراد واسمع منا حال كونك غير مسمع كلاما أصلا لصمم أو موت وهو دعاء منهم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذهاب السمع أو غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا.
يقولون للنبي: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله غير مسمع، معناه غير سامع.
ويقولون في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وسلّم: راعنا وهي كلمة ذات وجهين محتملة للخير إذا حملت على معنى اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وللشر إذا حملت على السب بالرعونة أو على أنهم يريدون إنك يا محمد كنت ترعى أغناما لنا فإنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلا لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة. وكانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأطلعه الله تعالى على خبيث ضمائرهم وعلى ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن نهجه وللقدح في دين الإسلام بالاستهزاء والسخرية وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا باللسان أو بالحال عند سماع شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا بدل ذلك لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عند الله وَأَقْوَمَ أي أصوب وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي أبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ذلك إِلَّا قَلِيلًا (٤٦) أي إلا إيمانا قليلا غير نافع وهو الإيمان بالله والتوراة وموسى، وكفروا بسائر الأنبياء أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الاحتضار فلا ينفعهم الإيمان وبعضهم جعل قليلا مستثنى من الهاء في لعنهم أي إلا نفرا قليلا فلا يلعنهم الله لأنهم لم يفعلوا ذلك بل كانوا مؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا أي بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقا للتوراة في القصص

صفحة رقم 200

والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي والفواحش مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أقفائها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فهم ملعونون بكل لسان. وضمير الغائب راجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات فلما لعنهم الله ذكرهم بعبارة الغيبة وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ بإيقاع شيء ما مَفْعُولًا (٤٧) أي نافذا. وهذا إخبار عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه تعالى مهما أخبرهم بإنزال العذاب على الكفار فعل ذلك لا محالة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ أي لا يغفر الكفر لمن اتصف بِهِ بلا توبة وإيمان وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي الشرك في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة من غير توبة عنها لِمَنْ يَشاءُ.
روي عن ابن عباس أنه قال: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالإعتاق إن هو فعل ذلك، ثم إنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذنبهم وأنه لا يمنعهم عن الدخول إلى الإسلام إلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: ٦٨]. فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في هذه الآية. فنزل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: ٧٠] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته تعالى.
فنزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] فدخلوا عند ذلك في الإسلام وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أي فقد فعل ذنبا غير مغفور أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ أي يمدحونها.
قال قتادة والضحاك والسدي: هم اليهود. أخرجه ابن جرير، وذلك لما هدد الله تعالى اليهود بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين بل نحن من خواص الله تعالى. وهذا استفهام تعجيب وهو أمر المخاطب على التعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم. وفي هذه الآية تحذير من إعجاب المرء بنفسه وعمله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ عطف على مقدر. أي هم لا يزكون أنفسهم في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستحقها من المؤمنين وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) أي إن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم. أي فلا يظلمون في ذلك العقاب قدر فتيل وهو الخيط الذي في شق النواة طولا. والنقير النقطة التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة والقمطير والقشرة الرقيقة على النواة. انْظُرْ يا أشرف الخلق متعجبا كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لقولهم ما نعمل بالنهار من الذنوب يغفره الله لنا بالليل، وما نعمل بالليل يغفره بالنهار ف «الكذب» مفعول به أو مفعول مطلق لأنه يلاقي العامل

صفحة رقم 201
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية