آيات من القرآن الكريم

وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]. الرقيب: الحافظ، يقال: رَقَبَ يرقُبُ رِقْبَةً وُرقُوبا (١). ومعناه: أنه يرقُب عليكم أعمالكم فاتقوه فيما نهاكم.
٢ - قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾. قال المفسرون: الخطاب للأوصياء وأولياء اليتامى (٢). أي أعطوهم أموالهم. وإنما يُعطى إذا بلغ، ولا يُتْمَ بعد البلوغ (٣)، ولكن قد يُستَصحب الاسم وإن زال معناه، كقوله: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦)﴾ [الشعراء: ٤٦]، أي: الذين كانوا سحرة قبل السجود. وقد كان يقال للنبي - ﷺ - يتيمُ أبي طَالِب (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
يقال: تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانَه (٥)، قال العجّاج:
مَن إِنْ تَبَدَّلتُ بِلادِي آدُر (٦)
قال أكثر المفسرين: كان ولي اليتيم يأخذ الجيّد من ماله ويجعل

(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٤٨ (رقب)، "مقاييس اللغة" ٢/ ٤٢٧ (رقب) والمصدر فيهما: رُقْبانًا.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢٨، "تفسير البغوي" ٢/ ١٥٩.
(٣) اليتيم هو الذي مات أبوه ويسمى بذلك حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتيم. هذا من ناحية الأحكام الشرعية، أما من الناحية اللغوية فيبقى الاسم لمن مات أبوه وإن كان بالغًا، لأن اليتيم لغة مأخوذ من الانفراد ومنه الدرة اليتيمة: أي المنفردة. انظر "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٣، ٣٤٠ (يتم).
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٧، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٧٣ (يتم)، "تفسير القرطبي" ٥/ ٨، ٩، والمقصود أنه كان يقال ذلك بعدما كبر - ﷺ -.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢٩٤ (بدل).
(٦) لم أجده في "ديوان العجاج" برواية الأصمعي وشرحه.

صفحة رقم 293

مكانَه الرديء، بجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، فنهى الله تعالى عن ذلك (١).
قال مجاهد وبَاذَان (٢): أي: لا تجعل بدل رِزقك الحلال حرامًا تتعجّله، فتأخذه عن مال اليتيم (٣).
ومعنى هذا ما قال الفراء والزجاج: يقول: لا تأكلوا أموالَ اليتامى بدل أموالكم، وأموالهُم عليكم حرام، وأموالكم حلال (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾. قال أكثر المفسرين: لا (تضيفوا) (٥) أموالهم في الأكل إلى أموالكم، إن احتجتم إليها فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم (٦).
قال عطاء: يريد تَربَح على يتيمك، بأن يَهوَى دابة عندك أو ثوبًا فتبيعه منه بأكثر من ثمنه، وهو غِرّ (٧) صغير السن (٨).

(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٢٩ - ٢٣٠، "زاد المسير" ٢/ ٥، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٨٧، "الدر المنثور" ٢/ ٢٠٧ - ٢٠٨.
(٢) باذان ويقال: باذام -بالميم- هو أبو صالح مولى أم هانىء، تقدمت ترجمته.
(٣) في "تفسير مجاهد" ١/ ١٤٣ يقول: لا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحال من أموالكم.
وأخرج الأثر عن مجاهد وباذان (أبي صالح) ابن جرير في "تفسيره" ٤/ ٢٣١ بنحوه، انظر "الكشف والبيان" ٤/ ٤ ب، "تفسير القرطبي" ٥/ ٩، "الدر المنثور" ٢/ ٢٠٨.
(٤) هذا نص كلام الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٣، ونحو كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٧.
(٥) في (د): (تضيعوا) بالعين.
(٦) نص كلام الزجاج في "معانيه" ٢/ ٧، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١١١، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٠.
(٧) كأنها في النسختين: (عن) والمُرجَّح ما أثبته لما عند الثعلبي في الحاشية التالية.
(٨) من "الكشف والبيان" ٤/ ٤ ب بتصرف، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٥، "القرطبي" ٥/ ١٠.

صفحة رقم 294

وهذا الذي ذكره عطاء هو نوع من أكل مال اليتيِم، ولا يجوز ذلك بأي وجهٍ كان.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢] الكناية تعود إلى الأكل، ودل (تأكلوا) على المصدر (١). والحُوب الإثم الكبير، وكذلك الحَوب والحَاب، ثلاث لغات في الاسم والمصدر، يقال: حَاب يحُوب حُوبا، وحَوبا وحَابًا وحيابًة، إذا أَثِم (٢).
قال الفراء: الحُوب لأهل الحجاز، والحَوب لتميم، ومعناهما الإثم (٣).
وقال أمية بن الأسكر الليثي (٤) -وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه (٥) -:

وإنَّ مُهَاجِرَينِ تَكنَّفَاهُ غَدَاتَئِذٍ لَقَد خَطِئَا وَحَابَا (٦)
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٠، "الدر المصون" ٣/ ٥٥٧.
(٢) انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٥٣، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١١٣، "تفسير ابن جرير" ٤/ ٢٣٠، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٢، "مقاييس اللغة" ٢/ ١١٣، "اللسان" ٢/ ١٠٣٦ (حوب).
(٣) ليس في "المعاني"، فقد يكون في كتابه المصادر، وهو مفقود.
(٤) أمية بن حُرثان بن الأسْكَر -بالسين المهملة على الصحيح- الكناني الليثي، شاعر مخضرم، له صحبة، كان سيدًا في قومه، توفي - رضي الله عنه - سنة ٢٠ هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ١/ ١٩٠، "الإصابة" ١/ ٦٤ - ٦٥، "الأعلام" ٢/ ٢٢.
(٥) ابن أمية هو كلاب، وقصته أنه خرج وأخٌ له في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتركا أباهما أمية وهو شيخ كبير وكان لا يصبر عن كلاب، فاشتكى أمية إلى عمر وأنشده قصيدةً كان البيت التالي منها، فكتب عمر إلي سعد بن أبي وقاص أن رحل كلاب ابن أمية فرحله، فلما قدم المدينة جمعه عمر بأبيه فجعل أميهَ يشَمُّ ابنَه ويبكي. انظر: "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي ص ١٠٨، ١٠٩، "الإصابة" ١/ ٦٤ - ٦٥.
(٦) البيت في "مجار القرآن" ١/ ١١٣، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٠، ٧/ ٥٢٩ لكن عجزه في الموضع الأول: لعمر الله قد خطئا وحابا، "ذيل الآمالي والنوادر" ص ١٠٩،=

صفحة رقم 295

وحكى الفراء، عن بني أسد أنهم يقولون للقتال: حَائِب (١). وقال النبي - ﷺ -: "رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي" (٢)، قال أبو عبيد (٣): حَوْبتي يعني: المآثم، قال: وكل مأثم حُوب وحَوب، والواحدة حَوبة، ومِن هذا قوله: ألك حوبة؟ قال: نعم (٤).
وهو عندي: كل حرمة تأثم الإنسان بتركها وتضييعها من أُمّ أو أُخت أو بِنت أو غيرهن (٥).
ويقال (٦): تَحوَّب فلان إذا تعبّد، كأنه يُلقي الحُوب عن نفسه بالعبادة، مثل: تأثم (٧).

= وعجزه فيه:
ليترك شيخه خطئا وخابا
"الإصابة" ١/ ٦٥ وجل ألفاظه مغايرة، حيث إنه جاء:
أتاه مهاجران فرنَّخاه عباد الله قد عَقَّا وخَابا
والشاهد: حابا أي أثما.
(١) في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٣.
(٢) جزء من دعاء للنبي - ﷺ - في حديث أخرجه أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ١/ ٢٢٧، وأبو داود (١٥١٠) كتاب الوتر، باب: ما يقول الرجل إذا سَلَّم، والترمذي (٣٥٥١) كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي - ﷺ -
(٣) في "غريب الحديث" ١/ ٢٢٠ وقد أخذ عنه المؤلف بتصرف.
(٤) جزء من حديث اختصره المؤلف وسياق أبي عبيد: أن رجلًا أتى إلى النبي - ﷺ - فقال: إني أتيتك لأجاهد معك. فقال: "ألك حوبة؟ " فقال: نعم. قال: "ففيها فجاهد". يُروى عن أشعث ابن عبد الرحمن عن الحسن يرفعه. "غريب الحديث" ١/ ٢٢٠. ولم أقف على هذا الحديث في دواوين السنة.
(٥) "غريب الحديث" ١/ ٢٢٠، ٢٢١ بتصرف.
(٦) الظاهر أنه من قول أبي عبيد، وليس في "غريب الحديث" وإنما في "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٠ (حاب)، وفي "الغريب" ١/ ٢٢١: وقد يكون التحوب التعبد والتجنب للمأثم.
(٧) انتهى أخذه عن أبي عبيد، وانظر "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩٠ - ٦٩١ (حاب).

صفحة رقم 296

قال الكُميت:

وصُبَّ له شَولٌ من الماء غَائرٌ (١) به كَفَّ عنه الحِيبَةَ المتَحَوِّبُ (٢)
والحِيبَة ما يُتأثم منه، يصف ذِئبًا سقاه وأطعمه (٣).
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية.
الإقساط: العَدل، يقال أَقسط الرجل إذا عدل (٤)، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: ٩].
والقسط: العدل والنصفة (٥)، قال الله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: ١٣٥].
قال الزجاجي: وأصل قَسَط وأَقْسَط جميعًا من القِسط، وهو النصيب، فإذا قالوا: قسط بمعنى: جار، أرادوا أنه ظلم صاحبه في قِسطه الذي يصيبه. ألا ترى أنهم قالوا: قاسطته فقسطتُه إذا غلبته على قِسطه، فبني قَسَط على بناء ظلم وجار وعسف وغلب، وإذا قالوا: أقسط، فالمراد به أنه صار ذا قسط وعدل، فبُني على بناء أنصف، إذا أتى بالنَّصف والعدل في قوله، وفعله، وقسمه (٦).
(١) في النسختين: (عابر) بالباء، ولعلها تصحفت عن: غابر.
(٢) البيت في "تهذيب اللغة" ١/ ٦٩١ (حاب)، "اللسان" ٢/ ١٠٣٦. والشَّول: هو الماء القليل. انظر "مقاييس اللغة" ٣/ ٢٣٠. والشاهد: المُتَحوَّب أي المتعبَّد.
(٣) من "تهذيب اللغة" ١٣/ ٦٩١ (حاب).
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٧/ ٥٤١، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩ (قسط).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩، "مقاييس اللغة" ٥/ ٨٥ (قسط).
(٦) الظاهر أن هذا نهاية كلام الزجاجي، ولم أعثر عليه فيما بين يديَ من مصنفاته. انظر "جمهرة اللغة" ٢/ ٨٣٦، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٥٩ (قسط).

صفحة رقم 297

واختلف أقوال أهل التأويل في هذه الآية، فرُوي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾؟ فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حَجرِ وليّها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِروا أن يَنكحوا ما سِواهن من النساء (١).
وعلى هذا التفسير تقدير الآية: وإن خفتم ألا تُقسطوا في نكاح اليتامى، أي: الإناث منهم، فحذف المضاف؛ لأن قوله بعد: ﴿فَانْكِحُوا﴾ يدل على النكاح (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي: من غيرهن، وذلك أن قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ بعد ذكر خوف الحَرج مِن نِكاح اليتامى، يدل على أن المراد به من غيرهن (٣).
هذا وجه ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي (٤) وعطاء، يقول: فكما خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى وَهمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن والقيام بحقهن؛ لأن النساء كاليتامى في الضعف، والعجز (٥).

(١) أخرجه البخاري بنحوه (٢٤٩٤) كتاب الشركة، باب: شركة اليتيم وأهل الميراث، ومسلم (٣٠١٣) كتاب التفسير، وعبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٤٥، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٣٦٠، ٣٦١، والطبري ٧/ ٥٣١، وغيرهم.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٨
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٢، "تفسير البغوي" ٢/ ١٦٠.
(٤) هو أبو الحسن علي بن أبي طلحة، تقدمت ترجمته.
(٥) من "الكشف والبيان" ٤/ ٥ ب، ٦ أ، وأشار الثعلبي إلى أن هذه رواية الوالبي عن =

صفحة رقم 298

وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي (١)، واختيار الفراء (٢).
وشرح ابن قتيبة هذا القول، فقال: المعنى: أن الله -جل وعز- قال لنا: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا أكلفتموهم (٣)، فخافوا أيضًا أنْ لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فانكحوا اثنتين، وثلاثًا، وأربعًا، ولا تتجاوزوا ذلك فتعجزوا عن العدل (٤).
وقال ابن عباس: قُصِر الرجالُ على أربع، مِنْ أجل اليتامى (٥).

= ابن عباس، ولم أجد رواية عطاء، وقد أخرجه ابن جرير بمعناه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٣، وانظر "أسباب النزول" للمؤلف ١٤٦ - ١٤٧، "زاد المسير" ٢/ ٦، "الدر المنثور" ٢/ ٢٠٩.
(١) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٣، "الكشف والبيان" ٤/ ٥ ب، ٦ أ، "أسباب النزول" ١٤٦ - ١٤٧، "زاد المسير" ٢/ ٦، "الدر المنثور" ٢/ ٢٠٩.
(٢) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٢٥٣، واختار القول أيضًا ابن جرير في "تفسيره" ٤/ ٢٣٣.
(٣) هكذا في (أ)، (د) والظاهر أن هذه الكلمة مُصحّفة من (كفلتموهم) بتقديم الفاء على اللام كما عند ابن قتيبة في "مشكل القرآن" ص ٧٢ على أن المعنى يصح على ما هو مذكور في المتن، أي: كلفتم أمرهن والقيام على مصالحهن.
(٤) انتهى من "مشكل القرآن" ص ٧٢، والواقع أن المؤلف حذف جملة مهمة من صدر الكلام وذلك أن ابن قتيبة قال: والمعنى: أن الله تعالى قصر الرجال على أربع نسوة وحرّم عليهم أن ينكحوا أكثر منهن، لأنه لو أباح لهم أن ينكحوا من الحرائر ما أباح من ملك اليمين لم يستطيعوا العدل عليهن بالتسوية بينهن، فقال لنا: فكما تخافون.. إلى آخر ما نقله المؤلف.
(٥) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" من رواية طاوس ٤/ ٢٣٣، وفيه: من أجل أموال اليتامى، والثعلبي ٤/ ٥ ب، وانظر "الدر المنثور" ٢/ ٢٠٩.

صفحة رقم 299

وكان (١) العدل في اليتامى شديدًا على كافِلِهم، قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء، ولم يُطلَق لهم ما فوق ذلك لئلا يميلوا.
وقال مجاهد: معنى الآية: إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانًا وتصديقًا فكذلك تحرجوا مِن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحًا طيبًا ثم بين لهم عددًا محصورًا، وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد (٢)، وهذا القول اختيار الزجاج (٣).
وهذه أوجهٌ صحيحةٌ من التأويل لهذه الآية (٤).

(١) هكذا العبارة، ولعل الصواب: ولما كان العدل..
(٢) الأثر بنحوه في "تفسير مجاهد" ١/ ١٤٤.
وأخرجه ابن جرير ٤/ ٢٣٦، والأثر عنده إلى (نكاحًا طيبًا) وقد أخذه المؤلف من الثعلبي ٤/ ٦ أ، وانظره في: "معاني الزجاج" ٢/ ٨، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦١، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٢/ ٢١٠.
(٣) لم أر اختيارًا للزجاج لهذا القول الأخير الذي ذهب إليه مجاهد، وإنما ساق أقوالاً، وذكر هذا القول في مقدمتها. انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ٨
(٤) هذا رأي المؤلف، وبعض المفسرين ساق هذه الأقوال دون ترجيح كالزجاج في المصدر السابق، والبغوي في "معالم التنزيل" ١/ ٣٩١، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" ٥/ ١٢، مما يؤيد احتمال الآية لهذه الأوجه. لكن ابن جرير -كما تقدم- اختار القول الثاني حيث قال: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن..
"تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٥، وقد علل لاختياره كعادته.

صفحة رقم 300

وقوله تعالى: ﴿مَا طَابَ﴾ ولم يقل: (من) الأصل أن (من) لما يعقل، و (ما) لما لا يعقل (١).
ولأهل العربية في هذا قولان: أحدهما: أن (ما) ههنا عبارة عن المصدر، فقال الفراء: معناه فانكحوا الطيب لكم من النساء (٢).
وقال مجاهد: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم من النساء (٣).
قال الفراء: وهذا كما تقول في الكلام: خُذ من عبيدي ما شئت، أي: مشيئتك فإن قلت: مَن شئت، فمعناه: خذ الذي شئت (٤).
فعلى هذا (ما طاب) بمنزلة الطيب.
والقول الثاني: أن (ما) و (من) ربما يتعاقبان، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥]، وقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ (٥) [النور: ٤٥].

(١) انظر: "المقتضب" ٣/ ٦٣، ٤/ ٢١٧، "معاني الزجاج" ٢/ ٨، "حروف المعاني" للزجاجي ٥٤، ٥٥، "شرح شذور الذهب" ١٨٩ - ١٩٠.
(٢) هذا مُؤدَّى رأي الفراء، وليس بنصه. انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٥٣، ٢٥٤.
(٣) الذي ظهر لي أن هذا معنى كلام مجاهد في الأثر المتقدم عنه قريبًا ص ٨٨ من قوله: (فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا) لأني لم أجد له هذا الكلام الذي أورده المؤلف هنا بنصه، وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٦ - ٢٣٧ ففيه ما يؤيد أن هذا معنى كلامه.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٥٤ - بتصرف-، وانظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٦ - ٢٣٧، "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٨، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٤٣٤.
(٥) انظر: "المقتضب" ٤/ ١٨٥، ٢١٨، "معالم التنزيل" ١/ ١٦١، "الإملاء بهامش الفتوحات" ٢/ ١٨٥، "الجامع لأحكام القرآن" ٥/ ١٢، "الدر المصون" ٣/ ٥٦١. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ١٦٢: وقرأ ابن أبي عبلة (من طاب) وقرأ الجمهور (ما طاب) فقيل (ما) بمعنى من، وهذا مذهب من يُجَوَّز وقوعَ ما على أحاد العقلاء، وهو مرجوح.

صفحة رقم 301

وحكى أبو عَمْرو بن العلاء (١)، عن العرب: سبحان ما سبح له الرعد (٢).
ومعنى قوله (طاب) أي: حلّ (٣)، وإنما أباح النكاح من اللاتي تحل دون المحرمات اللواتي ذُكِرن في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] إلى آخر الآية (٤).
وقوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾. بدل مما طاب، ومعناه: اثنتَين، وثلاثًا (ثلاثًا (٥)) وأربعًا (أربعًا) (٦).
قال أبو إسحاق (٧): إلا أنه لم ينصرف لجهتين لا أعلم أحدًا من النحويين ذكرهما؛ وهي أنه اجتمع فيه علتان: أنه معدول عن اثنتين اثنتين (٨) وثلاث ثلاث، وأنه عُدِل عن تأنيث.
قال أصحابنا (٩): إنه اجتمع علتان: أنه عَدْل (١٠)، وأنه نكرة، والنكرة أصل الأشياء (١١)، وهذا (١٢) كان ينبغي أن يخفّفه (١٣)؛ لأنّ النكرة

(١) هو زبان بن العلاء بن عمار التميمي البصري أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته.
(٢) من "الكشف والبيان" ٤/ ٦ ب. وقد نسب المبرد فى "المقتضب" ٤/ ٢٨٥ هذا القول لأبي زيد. وانظر: "تفسير القرطبي" ٥/ ١٣.
(٣) انظر: "الطبري" ٤/ ٢٣٦، "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٨، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦١.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٨، ٩، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٣.
(٥) هذا التكرير ليس في (د). والكلام من أوله للزجاج في "معاني القرآن" ٢/ ٩.
(٦) هذا التكرير ليس في (د). والكلام من أوله للزجاج في "معاني القرآن" ٢/ ٩.
(٧) أي الزجاج في "معانيه" ٢/ ٩.
(٨) عند الزجاج في "المعاني": اثنين اثنين بالتذكير.
(٩) لا يزال الكلام لأبي إسحاق الزجاج، والظاهر أنه يقصد البصريين من النحاة.
(١٠) في "معاني الزجاج" أنه عُدِل عن تأنيث.
(١١) عند الزجاج: الأسماء.
(١٢) عند الزجاج: بهذا.
(١٣) عند الزجاج: نخففه وهو أولى.

صفحة رقم 302

تخفف ولا تعد (فرعًا (١)) هذا كلام أبي إسحاق (٢).
وقد أخطا لي (٣) في موضعين من هذا الفصل أصلحهما أبو علي وذكر معنى العدل فقال (٤): اعلم أنّ العدل ضرب من الاشتقاق، فكل معدول مشتق، وليس كل مشتق معدولًا، وإنما صار العدل ثقلًا.
وثانيًا: لأنك تلفظ بكلمة وتريد بها كلمة على لفظ آخر، ألا ترى أنك تريد بعُمَر وزُفَر (عَامِرًا وَزافِرًا) (٥)، فأنت تلفظ بكلمة وتريد أخرى، وليس كذلك سائر المشتقات، لأنك تريد بها نفس اللفظ المسموع، ولست تُحيل بها على لفظ آخر، نحو: ضارب ومضروب؛ فإنهما اشتقا من الضرب، ولا تريد بلفظ واحد منهما لفظًا غيره، كما تريد بُعمَر عامرًا، وبزُفَر زَافِرًا، وبمثنى اثنين اثنين، فصار المعدول بمخالفته سائر المشتقات ثقيِلًا؛ إذ ليس في جنس الاشتقاق شيءٌ على حِدِّهِ.
وقول أبي إسحاق: إن مثنى لا ينصرف لجهتين: وهو أنه معدول عن اثنتين اثنتين، وأنه عُدِل عن تأنيث، مراده بهذا أنه لما عدل عن التأنيث كان ذلك ثقلًا آخر لما لم يكن المعدول عنه هو الأول المذكر، فزاد بذلك ثقلًا انضم إلى المعنى الأول فلم ينصرف.
إلى هذا الوجه ذهب أبو إسحاق، ولو سُلِّم له أنه عُدِل عن تانيث لم يكن ثقلًا مانعًا من الصرف يدل على ذلك أن التعريف ثانٍ، كما أن التأنيث

(١) في (د): (نوعًا)، وما أثبته هو الموافق لما في "معاني الزجاج".
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٩.
(٣) قد تكون: (لي) زيادة من الناسخ.
(٤) كلام أبي علي من كتابه "الإغفال" فيما أغفله الزجاج ٢/ ل ٦٣.
(٥) فى (د): (زافرًا وعامرًا).

صفحة رقم 303

كذلك، ولم يكن العدل عن التعريف ثقلًا معتدًا في منع الصرف، ألا ترى أنه لو كان مُعتَدًا به لوجب أن لا ينصرف (عُمر) في النكرة في قول جميع الناس، دلالة على أن العدل عن التعريف غير معتد به ثقلًا، على أنا لا نسلم أنه معدول عن تأنيث.
وقوله في ذلك دعوى لا دلالة عليها، ألا ترى أنه لا يجد فصلًا بينه وبين من قَلَب هذا عليه، فقال: إنه معدول عن التذكير هو أقرب إلى الصواب؛ لأن الأصل التذكير حتى يُعلم التأنيث، ولم نعلم التأنيث هنا. فإن قال: عَلِمنا التأنيث بقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى﴾ فجرى على النساء وهي مؤنثة، قيل: لا يدل هذا على أنّ العدل عن التأنيث، بل العدل يكون عن التذكير، وإنما جرى على النساء، من حيث كان تأنيثها تأنيث الجمع، وهذا الضرب من التأنيث ليس بحقيقي، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال، كما تقول: هي النساء، فلما كان تأنيث النساء تأنيث الجمع جرى عليه هذه الأسماء كما جرى على غير النساء مما تأنيثه تأنيث جمع؛ لأنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي، إنما هي من أجل اللفظ، فهو مثل: الدار، والنار، وما أشبه ذلك.
ولو جاز لقائل أن يقول: مثنى وبابُه معدول عن مؤنث لما جرى على النساء وواحدتهن مؤنثة، لجاز لآخر أن يقول: إنه مذكر؛ لأنه جرى صفة على الأجنحة في قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى﴾ [فاطر: ١]، وواحدها مُذكّر.
وهذا هو القول والوجه لما بينّا أنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي، على أن هذه الأسماء قد جرت المذكر الحقيقي، قال:

صفحة رقم 304

ولقد قتلتكم (١) ثناءَ وَموحَدًا وتركتُ مُرَّة مثل أمسِ الدَّابِرِ (٢)
فأما ذكره في قول: قال: إنه اجتمع فيه علتان، أنه عَدْل وأنه نكرة، الفصل إلى آخره، فاعلم أنه غلط بين في الحكاية عنهم، وإنما يذهبون في امتناعه من الانصراف إلى أنه معدول، وأنه صفة. وهذا لفظ سيبويه، قال (٣) عن الخليل في (أحاد، ومثنى): إنما كان حده واحدا واحدا، واثنين واثنين، فجاء (معدولًا (٤)) عن وجهه فتُرِك صرفه. قلت: أتصرفه في النكرة؟ قال: لا، لأنه نكرة يوصف به نكرة.
وحكى الخليل، عن أبي عمرو أنه قال في قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: ١]: أنها صفة (٥).
فقد نصوا على الصفة كما ترى، ونحو هذا قال أبو الحسن (٦) وغيره من أصحابنا. انقضى كلام أبي علي (٧).
(١) في النسختين: (قبلتكم) بالموحدة التحتية، وما أثبته حسب "الإغفال" والمصادر الآتية.
(٢) البيت لصَخر بن عمرو بن الشّريد السُلمي.
انظر: "مجاز القرآن" ١/ ١١٥، "أدب الكاتب" ص ٤٥٨، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٣٧، لكن عند أبي عبيدة وابن جرير قافيته: كأمس المدبر، ومال إلى ذلك محمود شاكر في حاشيته على ابن جرير. والشاهد منه كما في "مجاز القرآن" أنه اخرج اثني مخرج ثلاث.
(٣) أي سيبويه في "الكتاب" ٣/ ٢٢٥.
(٤) في "الكتاب" محدودًا.
(٥) انتهى أخذ أبي علي من سيبويه في "الكتاب" ٢/ ٢٢٥، وانظر: "الطبري" ٤/ ٢٣٧.
(٦) إن كان يريد الأخفش -وهو الظاهر- فإن رأيه مغاير لما ذكر كما سيأتي.
(٧) من "الإغفال" ٢/ ل ٦٣ - ٦٧ بتصرف.

صفحة رقم 305

ومن النحويين (١) من يذهب إلى أن العلّة المانعة للصرف في (مثنى) وبابه، أن العدل تكرر فيه؛ لأنه عُدِل لفظ (اثنين)، وعُدِل عن معناه أيضًا، وذلك لا يستعمل في موضع يستعمل (٢) فيه الأعداد غير المعدولة. ألا ترى أنك تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز أن تقول: جاءني مثنى وثلاث، حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جُعِل بيانًا لترتيب الفعل، فإذا قال القائل: جاءني القوم مثنى مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين.
وأما الأعداد غير المعدولة، فإنما الغرض فيها الإخبار عن مقدار المعدود (دون (٣)) غيره، فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين، لإيجابها حكمين مختلفين (٤).
والواو في قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ دالة على تفرّق الأنواع، وتجنيس المُباح من الزوجات، فمن تزوج مثنى لم يضم إليهما ثلاثًا، وكذلك من تزوج ثلاثًا لم يضم إليهن أربعًا.
قال الشاعر:

ولَكِنَّمَا أَهْلِي بوادٍ أَنيسُه ذئابٌ تَبَغَّى الناس مثْنَى وَموْحَدا (٥)
(١) كالأخفش في "معاني القرآن" ١/ ٤٣١، والنحاس في "إعراب القرآن" ١/ ٣٩٣ - ٣٩٤، وقد تبعهم في ذلك أبو حيان في "البحر المحيط" ٣/ ١٥١، والسمين الحلبي في "الدر المصون" ٣/ ٥٦٣، وعبارة الأخيرين لا تختلف عن عبارة المؤلف إلا يسيرًا فيحتمل إفادتهما منه.
(٢) في "البحر"، و"الدر" (تستعمل) بالتاء.
(٣) في (د): (عن)، وما أثبته مطابق لـ"البحر"، و"الدر".
(٤) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٤٣١، ٤٣٢، "البحر المحيط" ٣/ ١٥١، "الدر المصون" ٣/ ٥٦٣.
(٥) البيت لساعدة بن جُؤيّة الهذلي كما في "ديوان الهذليين" ١/ ٢٣٧، "الكتاب" =

صفحة رقم 306

فعَنى مثنى في حال، وموحد في حال أخرى، وليس (موحد) مضمومًا إلى (مثنى) في المعنى.
وقال ابن الأنباري: الواو هنا معناها التفرّق، وليست واوًا جامعة، فإذا كانت بهذه الصفة قُدِّر الفعل بعدها، وكان التأويل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثلاثًا في غير الحال الأول، وانكحوا رباع في غير الحالين (١).
وهذا معنى قول النحويين: أن الواو ههنا للبدل (٢)، كأنه قيل: وثلاث بدلا من مثنى، ورُباع بدلًا من ثلاث (٣).

= ٣/ ٢٢٦، "اللسان" ١/ ٣٢١ (بغا). وهو من شواهد "مجاز القرآن" ١/ ١١٤، "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٤٣٢، "المقتضب"، "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١٠. وقد اختلفت الرواية في قافية البيت بين الرفع والنصب، فجاءت: موحدا كما عند المؤلف في "مجاز القرآن" "معاني القرآن" للأخفش، "اللسان". وجاءت موحد في "الديوان"، "الكتاب"، "المقتضب"، "معاني القرآن" للزجاج، ولعل هذه أرجح لموافقتها قوافي القصيدة، انظر "ديوان الهذليين" ١/ ٢٣٦ - ٢٤٢. أما معنى البيت فجاء في شرحه في "الديوان": يقول: أهلي بواد ليس به أنيس: هم مع السباع والوحش في بلد مقفر. مثنى: اثنان اثنان. وموحدت واحد واحد، ومعنى تبغّى: تطلب. كما في "اللسان".
(١) لم أقف على كلام ابن الأنباري فيما بين يديّ من مصنفاته.
(٢) إذا كان المؤلف -وهو الظاهر- يقصد أن (مثنى وثلاث ورباع) بدل مما قبلها، فهي في موضع نصب على البدل من (ما) في (ما طاب) عند بعض النحاة. انظر "إعراب القرآن" للنحاس (٣٩٣)، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٨٩، "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٨١، "الدر المصون" ٣/ ٥٦٢. وإن كان غير ذلك فإني لم أجد -فيما اطلعت عليه من كتب التفسير وإعراب القرآن ومعاني الحروف- أن الواو تأتي بمعنى البدل، والله أعلم.
(٣) انظر: "القرطبي" ٥/ ١٧.

صفحة رقم 307

وقال صاحب النظم (١): الواو في هذا الفصل بمنزلة (أو)؛ لأنه لما كانت (أو) بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة (أو) (٢).
ولا تدل هذه الآية على إباحة التسع (٣)؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات وأبلغها، وليس من شأن الخطيب البليغ أَنْ يُفرِّق العدد في مثل هذه الحال، يقول: أعط زيدًا درهمين وثلاثة وأربعة؛ لأنه يصير أعيا كلام (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾، أي: في الأربع، بالحب والجماع (٥).

(١) أي مصنف كتاب "نظم القرآن" وهو أبو علي الجرجاني.
(٢) انظر: الطبري ٤/ ٢٣٨، "الكشف والبيان" للثعلبي ٤/ ٦ ب، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦١، "غرائب التفسير" ١/ ٢٨٢، واستبعد أبو حيان أن تكون أو بمنزلة الواو، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء، والواو لمطلق الجمع فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع. انظر: "البحر" ٣/ ١٦٣. وما ذكره المؤلف حول الواو هنا أقوال متقاربة من حيث المعنى.
(٣) يشير المؤلف إلى بطلان رأي الشيعة الرافضة في ذلك. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١٠، والبغوي ٢/ ١٦١، والقرطبي ٥/ ١٧، و"البحر المحيط" ٣/ ١٦٣، وابن كثير ١/ ٤٨٨.
(٤) من "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١٠ بتصرف. وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني ١/ ٢٨٢.
(٥) هذا رأي الضحاك كما عند الطبري ٤/ ٢٣٩، والفراء في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٥. انظر: القرطبي ٥/ ٢٠. والظاهر أن العدل إنما هو بالنفقة والقسمة ونحوهما، وليس الزوج مُطالبًا بالعدل في الأمور القلبية والنفسية كالحب، ويدل على ذلك أن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: ١٢٩]، قال الطبري ٥/ ٣١٣ في معناه: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثل ما لصواحبها؛ لأن ذلك مما لا تملكونه وليس إليكم.=

صفحة رقم 308

﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي: فلينكح كل واحد منكم واحدة (١).
ومن قرأ بالرفع (٢) أراد: فواحدةٌ مقنَع، أو فواحدةٌ رضا (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾. يريد من الجواري (٤)؛ لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق كالذي يلزم في الحرائر، ولا قسمة فيهن باليوم والليلة (٥).
ومعنى الأيمان ههنا بيان، تقديره: أو ما ملكتم (٦).

= وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - ﷺ - يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. قال أبو داود: يعني القلب أخرجه أبو داود (٢١٣٤) كتاب: النكاح، باب: في القسم بين النساء، والنسائي ٧/ ٦٤ كتاب: عشرة النساء، باب: ميل الرجل إلى بعض نسائه، والترمذي (١١٤٠) كتاب النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، وابن ماجه (١٩٧١) كتاب النكاح، باب: القسمة بين النساء، وابن حبان في "صحيحه" ١٠/ ٥ (٤٢٠٥).
وأشار ابن حجر إلى أن فيه مقالًا، انظر: "التلخيص الحبير" ٣/ ١٣٩.
(١) هذا التقدير على قراءة النصب وهي قراءة الجمهور من العشرة انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٤، "المبسوط" / ١٥٣، "النشر" ٢/ ٢٤٧، "إتحاف فضلاء البشر" ص ١٨٦.
(٢) وهو أبو جعفر وحده من العشرة. انظر: "المبسوط" / ١٥٣، "النشر" ٢/ ٢٤٧، "الإتحاف" / ١٨٦.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٥٥، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٤، "الإتحاف" ص ١٨٦.
(٤) أخرج الطبري ٤/ ٢٣٩ عن السدي أنه قال: السراري، وانظر: القرطبي ٥/ ٢٠.
(٥) من "الكشف والبيان" ٤/ ٧ أبتصرف. وهذا ما دلت عليه الآية أنه لا يجب للإماء ما يجب للحرائر، ولكن الظاهر أنه يستحب. انظر: البغوي ٢/ ١٦٢، القرطبي ٥/ ٢٠، ابن كثير ١/ ٤٩٠.
(٦) "الكشف والبيان" ٤/ ٧ أ، وانظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١٦٢.

صفحة رقم 309

وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣] الإشارة في ﴿ذَلِك﴾ تعود إلى قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ﴾ (١) أي: نكاحكم هؤلاء النسوة على قلة عددهن أقرب إلى العدل وأبعد من الظلم والجور.
ومعنى ﴿تَعُولُوا﴾: تميلوا (وتجورا) (٢)، عن جميع أهل التفسير واللغة (٣)، وروي ذلك مرفوعًا.
روت عائشة، عن النبي - ﷺ - في قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ قال: "لا تجوروا". ورُوي: "أن لا تميلوا" (٤). كلا (٥) اللفظين مرويّ.
قال ابن المظفر: العَول المَيل في الحكم إلى الجور (٦).
وقال أبو عبيدة، عن الأصمعي: وعال الميزان إذا مال، وإنما هو مأخوذ من الجور (٧)، وأنشد لأبي طالب (٨):

(١) لعل هذا وهم من المؤلف، فالذي يظهر أنّ اسم الإشارة يعود إلى قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، يؤيد هذا بقية كلامه. وانظر: الطبري ٤/ ٢٣٨.
(٢) هكذا في (أ)، (د). والصواب: (تجوروا).
(٣) سيأتي تفصيلٌ وتعدادٌ لمن ذهب إلى ذلك من أهل التفسير والعربية قريبًا عند المؤلف، وارجع إلى مظانه هناك.
(٤) أخرج الحديث بالروايتين الثعلبي في "الكشف والبيان" ٤/ ٢٧، قال ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث خطأ، الصحيح، عن عائشة موقوف، "تفسير القرآن العظيم" لابن أبي حاتم ٣/ ٨٦٠ بتحقيق حكمت بشير بابين (رسالة دكتوراه في أم القرى)، وانظر "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٩٠.
(٥) في (أ): (كلى).
(٦) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٨ (عال)، وابن المظفر هو المعروف بالليث، وتقدمت ترجمته.
(٧) من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٨ (عال)، وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ١١٧.
(٨) هو عبد مناف بن قصي بن هاشم القرشي، أبن عم النبي - ﷺ - تقدمت ترجمته.

صفحة رقم 310

بِميزانِ قسط لا يُعِلّ شَعيرةً ووزَّانُ صدقٍ وزنُه غيرُ عائلِ (١)
وقال الفراء: عال الرجل يعول عَولًا وعِيالةً، إذا مال وجار (٢).
وعلى هذا القول ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، وقتادة، والربيع، والسدي، وأبو مالك (٣)،
وعكرمة (٤)، والفراء (٥)، والزجاج (٦)، وابن قتيبة (٧)، وابن الأنباري (٨).
(١) البيت من قصيدة طويلة مشهورة بيّن فيها أبو طالب وقوفه مع النبي - ﷺ - لما خشي قومه ودهماء العرب كما في "سيرة ابن هشام" ١/ ٢٨٦ - ٢٩٨، وهو في الطبري ٤/ ٢٤٠، "الزاهر" لابن الأنباري ١/ ١٤١، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٨ (عال)، وابن كثير ١/ ٤٩٠. وقوله: "لا يعل" يبدو أنه بالغين (يغل) كما عند الطبري، وفي "السيرة": يخس بدل يغل، والمعنى كما في حاشية الطبري: أي: لا ينقص. و (وزان) عند الطبري وابن الأنباري بلفظ (ووازن). وعجز هذا البيت في "السيرة"، "تهذيب اللغة"، و"ابن كثير":
له شاهد من نفسه غير عائل
قال ابن الأنباري: معناه: غير مائل، وهذا هو الشاهد من البيت هنا.
(٢) ليس في "معاني القرآن"، وإنما الذي فيه: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾: ألا تميلوا، وهو أيضًا في كلام العرب: قد عال يعول.
(٣) هو: غَزوان الغِفاري الكوفي، تقدمت ترجمته.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤٠، و"البغوي" ١/ ١٦٣، و"ابن كثير" ١/ ٤٩٠، و"الدر المنثور" ٢/ ٢١١.
(٥) في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٥.
(٦) في "معاني القرآن" وإعرابه ٢/ ١.
(٧) في "غريب القرآن" ص ١١٩.
(٨) انظر: "غريب القرآن" لابن عزيز ص ٣٣.

صفحة رقم 311

وأخبرني العروضي قراءةً، وسعيد بن العباس القرشي كتابةً، عن الأزهري، قال: أخبرني عبد الملك (١)، عن الربيع (٢)، عن الشافعي - رضي الله عنه - (٣) أنه قال: معناه ألّا يكثر عيالكم (٤).
وإلى هذا القول ذهب من المفسرين عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (٥)، وليس قول من خطّأ الشافعي في هذا بشيءٍ، فقد روى لنا الفسوي أبو الحسين، عن حَمْد بن محمد الفقيه، عن أبي عمر (٦) محمد بن عبد الواحد، عن أحمد بن يحيى، عن سَلَمة (٧)، عن الفراء، عن الكسائي (٨)، أنه قال: ومن العرب الفُصَحاء من يقول: عال يعول، إذا كثر عياله (٩).
قال الكسائي: وهي لغة فصيحة سمعتُها من العرب (١٠).

(١) لم أعرفه.
(٢) هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المُرادي المَصري المُؤَذَّن، صاحب الشافعي وراوي كتبه، ثقة، أخرج له أصحاب السنن، توفي -رحمه الله- سنة ٢٧٠ هـ. انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص ١٠٩، "سير أعلام النبلاء" ١٢/ ٥٨٧، "التقريب" ص ٢٠٦ رقم (١٨٩٤).
(٣) السند من الأزهري إلى الشافعي في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال).
(٤) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال)، وانظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١٦٢، "تفسير القرطبي" ٥/ ٢١.
(٥) أخرجه الطبري ١/ ٢٤١ بلفظ: أهون عليك في العيال. وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال)، "زاد المسير" ٢/ ١٠، "الدر المنثور" ٢/ ٢١١.
(٦) السند من أبي عمر إلى آخره في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال).
(٧) أبو محمد سلمة بن عاصم النحوي، تقدمت ترجمته عند تفسير [البقرة: ١٠٢].
(٨) هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي.
(٩) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال).
(١٠) هذا القول للكسائي ليس في "تهذيب اللغة".

صفحة رقم 312

قال الأزهري (١): وهذا يدل على أن الشافعي لم يخطئ من جهة اللغة؛ لأن الكسائي ثقة مأمون (٢).
قال (٣): والمعروف من كلام العرب: عال الرجل يعول، إذا جار ومال (٤)، وأعال (٥)، إذا كثر عياله (٦).
وقال ابن الأنباري: وهذا القول -على قلة القائلين به- له مخرج في اللغة، وهو أن العرب تقول: قد عالت الفريضة، إذا زادت سهامها، وأعلتها أنا (إذ أردت (٧)) في سهامها (٨). فكذلك قوله: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ معناه ألا يزداد عيالكم فتضيعوا الواجب والمفترض لهم (٩).
وهذا القول وإن صح، فالاختيار القول الأول (١٠)، لقوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فأطلق الآية من ملك اليمين، والأقل والأكثر منها (١١)، وهن كلهن عيال تتصل بهن المؤونة، وسواء كثر العيال من الحرائر أو الإماء،

(١) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال).
(٢) معنى كلام الأزهري وليس نصه.
(٣) أي الأزهري، وهو في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال) متقدم على قوله السابق.
(٤) ومال ليس في "التهذيب".
(٥) في "التهذيب": وأعال يعيل.
(٦) انتهى من "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٨٧ (عال). وانظر: "الزاهر" ١/ ١٤٠، ١٤١.
(٧) هكذا في (أ)، (د). ولعل الصواب: إذا زدت.
(٨) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد ٢/ ٣٩٦، "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٢٧٨ (عال).
(٩) لم أقف على قول ابن الأنباري هذا، لكن قال في "الزاهر" ١/ ١٤٠: ويقال: قد أعال الرجل يعيل فهو معيل: إذا كثر عياله.
(١٠) هذا الأسلوب من الترجيح حسن من المؤلف، لما فيه من التأديب مع أئمة علم الشريعة والعربية، كالشافعي والكسائي، عكس ما نهج الزجاج -رحمه الله- في هذا، حيث رد هذا القول بشدهَ، بل وتجاهل القائلين به فلم يصرح بأسمائهم. انظر "معاني القرآن" وإعرابه ٢/ ١١.
(١١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١١.

صفحة رقم 313

فلا معنى إذًا أن يقول: ذلك أدنى أن لا يكثر عليكم (١) بعد إباحة الكثير من السراري.
ودليل آخر، وهو أنه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ ولم يقل: أن تفتقروا، فكان الجواب معطوفًا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وهو الجور، لا لكثرة العيال. ذكر هذا صاحب النظم (٢).
ورُوي عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ ألا تضلوا (٣). وهذا راجع إلى الأول (٤)، لأن الميل عن الحق ضلال.
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ فيه قولان:
أحدهما: أن هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك أنّ العرب كانت في الجاهلية لا تُعطي النساء من مهورها شيئًا، ولذلك كانوا يقولون لمن وُلدت له ابنة: هنيئًا لك النافجة. ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلًا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك، أي تعظمه (٥).
وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل إذا زَوّج ابنته من الحُلوان فنهى الله عز وجل عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله (٦).

(١) هكذا ولعل الصواب: عيالكم.
(٢) أي "نظم القرآن" وهو الجرجاني، تقدمت ترجمته.
(٣) رواه الثوري في "تفسيره" ص ٨٧ بسنده عن مجاهد، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" ٤/ ٧ ب. انظر: "تفسير البغوي" ٢/ ١٦٢، "زاد المسير" ٢/ ١٠.
(٤) أي: تميلوا وتجوروا، قال الهواري لما ذكر القولين: وهو واحد، "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري ١/ ٣٤٧.
(٥) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١١٥، ١٢٠، "تهذيب اللغة" (نفج) ٤/ ٣٦٢٤، "الكشف والبيان" ٤/ ٨ أ.
(٦) لم أقف عليه.

صفحة رقم 314

وهذا قول الكلبي (١)، وأبي صالح (٢)، واختيار الفراء (٣)، وابن قتيبة (٤).
القول الثاني: أن الخطاب للأزواج، أُمِروا بإيفاء النساء مهورهن.
وهذا قول إبراهيم (٥)، وعلقمة، وقتادة (٦)، وابن زيد (٧)، واختيار الزجاج؛ قال: لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج (٨).
والصدقات والمهور، واحدتها صَدُقَة، وفيها لغات هذه أعلاها وهي لغة أهل الحجاز (٩).
وذكرنا أن موضوع (ص د ق) على هذا الترتيب، للإكمال والصحة في قوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ﴾ (١٠) [البقرة: ٢٦٤]، وعلى هذا الأصل سُمي المهر: صداقًا وصَدُقة؛ لأن عقد النكاح يتم ويكمل.

(١) انظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٨ أ، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٢.
(٢) أخرج قوله ابن جرير ٤/ ٢٤١.
(٣) في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٦.
(٤) في "غريب القرآن" ص ١١٥.
(٥) لم أقف على قول إبراهيم وهو النخعي.
(٦) انظر: "الدر المنثور" ٢/ ٢١٣.
(٧) أخرج ابن جرير في "تفسيره" ٤/ ٢٤١، عن قتادة في معنى (نخلة): يقول فريضة، يعني على الزواج.
(٨) أخرجه ابن جرير ٤/ ٢٤١ بنحو قول قتادة.
(٩) انظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٢. وهذا ما اختاره ابن جرير -رحمه الله- كما في "تفسيره" ٤/ ٢٤٢، والبغوي ٢/ ١٦٣، وهناك قول ثالث: وهو أن المراد النهي عن نكاح الشَّغار وهو رأي الحضرمي. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤٢، "الكشف والبيان" ٤/ ٨ أ، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٣.
(١٠) انظر: "معاني القرآن" للزجاج، ٢/ ١٢، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٤٩٤، "الكشف والبيان" ٤/ ٨ ب.

صفحة رقم 315

وقوله تعالى: ﴿نِحْلَةً﴾. قال ابن عباس (١)، وقتادة، وابن جريج، (وأبي زيد) (٢): فريضة (٣). وإنما فسروا النحلة بالفريضة؛ لأن النحلة معناها في اللغة: الديانة والمِلّة والشِرعة والمَذهب.
قال الزجاج، عن بعضهم في قوله: ﴿نِحْلَةً﴾ أي: ديانة (٤)، ومثله رُوي (٥) عن ابن الأعرابي: نحلة: أي: دينًا وتدينًا (٦). يقال: فلان ينتحل كذا، إذا كان يتدين به، ونِحْلَتُه كذا أي: دينه ومذهبه (٧).
فقوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ أي آتوهن مهورهن، فإنها نِحلة، أي دين وشريعة ومذهب في الدين، وما هو ديانة فهو فريضة.
قال ابن الأنباري: يقال: فلان (مُنْتَحِلٌ (٨)) كذا، إذا كان يتدين به ويجعله فَرضًا على نفسه (٩).
وقال الكلبي: أي: عطية وهبة (١٠)، يقال نحلت فلانًا شيئًا أنحله

(١) أخرجه ابن جرير بسنده من طريق ابن أبي طلحة ٤/ ٢٤١. وانظر: "الدر المنثور" ٢/ ٢١٢.
(٢) هكذا في (أ)، (د) وقد يكون تصحيفًا كما هو ظاهر، والصواب: وابن زيد.
(٣) أخرج أقوالهم الطبري ٤/ ٢٤١، وانظر: "الكشف والبيان" ٤/ ٨ ب، والبغوي ٢/ ١٦٣، و"الدر المنثور" ٢/ ٢١٢.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ١٢.
(٥) الراوي الأزهري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٣٢ (نحل).
(٦) "تهذيب اللغة" ٥/ ٦٥ (نحل).
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١٢، "تهذيب اللغة" ٥/ ٦٤ (نحل).
(٨) في (د): (ينتحل).
(٩) انظر: "الزاهر" ٢/ ٢٥٤.
(١٠) "الكشف والبيان" ٤/ ٨ ب، وانظر: "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٣، "البحر المحيط" ٣/ ١٦٦، "تنوير المقباس" بهامش المصحف الشريف ص ٧٧.

صفحة رقم 316

نِحلة ونُحلاً. قال الفراء، والنحلة العطية (١).
ومعنى هذا القول: أن الله تعالى جعل الصداق نِحلةً للنساء، بأن جعل على الرجال الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئًا من الغُرم، فتلك نحلة من الله -عز وجل- للنساء. وهذا القول اختيار الفراء (٢).
وقال أبو عبيدة: معنى قوله: ﴿نِحْلَةً﴾ أي: عن طيب نفس (٣)، وذلك أن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما يَنحَل الرجلُ ولدَه شيئًا من ماله، وما أعطي من غير طلب عوض لا يكون إلا عن النفس، فأمر الله تعالى بإعطاء مهور النساء من غير مُطالبة منهن ولا مُخاصمة فيه؛ لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نِحلة (٤).
قال ابن الأنباري: وهذا القول هو المختارة لأن النَّحلة بالهبة أشهر منها بالفريضة، وحمل الشيء على الأشهر والأعرف فيه أولى (٥).
وانتصابها على المصدر في قوله (٦) من جعلها مصدرًا بمعنى: الهبة (٧)، وفي قول الآخرين على أنه مفعول له (٨)، كما تقول: افعل هذا أجرًا واحتسابًا.

(١) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٢٥٦.
(٢) في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٦، وقد حكى الفراء هذا القول ولم يذكر غيره.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ١١٧، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١١٥.
(٤) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١١٥ "الزاهر" ٢/ ٢٥٤.
(٥) هذا الترجيح من ابن الأنباري لم أقف عليه، بل وقفت على خلافه حيث قال -بعد أن أشار إلى القولين-: والقولان متقاربان، "الزاهر" ٢/ ٢٥٤.
(٦) هكذا ولعل الصواب: (قول).
(٧) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٨٨، "البيان في غريب إعراب القرآن" ١/ ٢٤٢، "البحر المحيط" ٣/ ١٦٦، "الدر المصون" ٣/ ٥٧١.
(٨) انظر: "البحر المحيط" ٣/ ١٦٦، "الدر المصون" ٣/ ٥٧١.

صفحة رقم 317

وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾. قال الفراء (١) والزجاج: المعنى فإن طابت أنفُسهن لكم عن شيء من الصداق (٢)، فنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مُفسّرة كما قالوا: أنت حسنٌ وجهًا، والفعل في الأصل للوجه، فلما حُوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسّرًا لموقع الفعل. (ومثله: قررتُ به عينًا، وضقتُ به ذرعًا) (٣)
ووحد النفس (٤)؛ (لأن المراد به بيان موقع الفعل وتفسير له، وذلك يعرف بالواحد دون الجميع. ومثله: عشرون درهما) (٥).
قال الفراء: ولو جمعت كان صوابًا (٦)، كقوله: ﴿بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ [الكهف: ١٠٣]، وقوله تعالى: ﴿مِنْهُ﴾ (مِن) ليست ههنا للتبعيض، بل هي للتجنيس، والتقدير: عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر، كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: ٣٠]، وذلك أن المرأة لو طابت نفسُها عن جميع المهر حل للزوج أخذه كله.
والخطاب في: ﴿لَكُمْ﴾ يجوز أن يكون للأولياء، ويجوز أن يكون للأزواج، على ما ذكرنا من القولين في قوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ (٧).

(١) في "معاني القرآن" ١/ ٢٥٦.
(٢) من الصدقات زيادة على الفراء.
(٣) ما بين القوسين زيادة على ما عند الفراء.
(٤) عبارة الفراء: ووحد النفس، ولو جمعتَ لكان صوابًا، وقد جاء بقية العبارة عند المؤلف في آخر كلامه كما سيأتي.
(٥) ما بين القوسين زيادة على ما عند الفراء.
(٦) انتهى من "معاني الفراء" ١/ ٢٥٦، وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٢، والشاهد بعد ذلك إضافة من المؤلف، والله أعلم. وانظر "الكف والبيان" ٤/ ٢٩.
(٧) من "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١٣ بمعناه.

صفحة رقم 318

وقوله تعالى: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾. قال الفراء (١): يقال هَنَأني الطعام، ومَرأَني (يهيئني (٢)) ويمرئني هَنأً وَمرءًا. ومنهم من يقول: هنئني ومرئني -بالكسر- وهي قليلة، يَهْنَأني وَيْمَرأني فإذا أفردوا قالوا: أمرأني هذا الطعام (٣)، ولا يقولون: أهنأني. وقد مَرُؤ هذا الطعام مَرْأاة، وهنؤ هُنْأة. الليث (٤): ما كان مريئًا، ولقد مرؤ، واستمرأته، وهذا يُمرئ الطعام.
وقيل: إن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجَرَب بالقَطران (٥)، فالهنيء شفاء من المرض كالهناء شفاء من الجرب (٦).
قال المفسرون: معنى الهنيء: الطيب المَساغ الذي لا يُنغِّصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة التامّ الهضم الذي لا يضر ولا يُؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة (٧).
ورُوي عن ابن عباس، عن النبي - ﷺ -: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: "إذا جادت لزوجها بالمهر طائعة، غير مُكرَهة لا يَقْضي به عليه سلطان، ولا يؤاخذه الله به في الآخرة" (٨).

(١) ليس في "معاني القرآن".
(٢) هكذا ويبدو أن الصواب: يهنئني.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" للطبري ٤/ ٢٤٤، "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ١٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٣ (هنا)، "الكشف والبيان" ٤/ ٩ أ.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٣ (هنأ).
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤٤، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٠٣ (هنأ)، "مقاييس اللغة" ٦/ ٦٨ (هنأ)، "الكشف والبيان" ٤/ ٩ أ.
(٦) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٤٤، "النكت والعيون" للماوردي ١/ ٤٥١.
(٧) ما نسبه للمفسرين هو ما حكاه شيخه الثعلبي في "الكشف والبيان" ٤/ ٩أ، ب.
(٨) من "الكشف والبيان" ٤/ ٩ ب، وقد أورده الثعلبي بسنده، ولم أقف عليه عند غيره.

صفحة رقم 319
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية