آيات من القرآن الكريم

وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ

الصحة أولى، لأن مثلها كاملة لا تجابه رسول الله بمثل هذا الكلام، كما أن حضرة الرسول لا يعنف أحدا بعد إسلامه، فهذا وإن كان واقعا إلا أنه لا يدل على أن هذه الآية نزلت هناك، وإنما بايعهن بمقتضى هذه البيعة التي بايع عليها النساء في المدينة لأن الله تعالى لم ينزل بكل حادثة آية، فيكرر نزول الآيات بتكرار الحوادث بل آية واحدة لحوادث شتى وتطبيقها على ما يحدث بعد نزولها بتلاوتها من قبل النبي لا يعني أنها نزلت ثانيا وسبق أن بينا في سورة الفاتحة ج ١ عدم صحة نزول آية أو سورة مرتين، قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» من اليهود وغيرهم «قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ» وحرموا من ثوابها لتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلم مع علمهم بأنه مرسل من الله حقا لهم ولغيرهم «كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» (١٣) الذين ماتوا على كفرهم من أن يرجعوا إليهم وأن يبعثوا ثانيا لأنهم ينكرون البعث، وقد ختم الله هذه السورة بالمعنى الذي بدأها به تشديدا للكفّ عن موالاة الكافرين والمنافقين لأنها تعود على المسلمين بالضرر، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت هذه السورة في القرآن كله هذا، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذرياته أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين آمين.
تفسير سورة النساء عدد ٦ و ٩٢ و ٤
نزلت بالمدينة بعد سورة الممتحنة، وهي مئة وست وأربعون آية، وثلاثة آلاف وخمس وأربعون كلمة، وسنة عشر الف وثلاثون حرفا، لا يوجد مثلها في عدد الآي، وقدمنا في سورة الممتحنة السور المبدوءة بلفظ يا أيها.

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» نفس آدم عليه السلام «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» حواء عليها السلام من ضلع من أضلاعه سئل جراح لم خلقت المرأة من ضلع الرجل؟ فقال إنما أخذت من جانبه لتكون مساوية له، ومن تحت ذراعيه

صفحة رقم 514

ليحميها، ومن أقرب مكان لقلبه ليحبها ويحترمها، ولم تخلق من رأسه لئلا تتسلط عليه ولا من قدميه لئلا يدوسها عند الغضب. قال تعالى «وَبَثَّ مِنْهُما» ما تفرع عنهما بطريق الولادة «رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» أكثر، وإنما لم يصفهن بالكثرة مع أنهن أكثر من الرجال إشارة إلى الاختفاء المقتضى لهن، وتنبيها على أن الرجال أكمل منهن وأتم وأفضل، وعلى القاعدة بجواز الحذف من الثاني لدلالة الأول وبالعكس ومثله كثير «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ» بين بعضكم كقولك أسألك بالله أن تفعل كذا وأحلف عليك بالله وأستشفع إليك بالله أن تعفو عن كذا وأرجوك بالله وأستجيرك بالله من أن تقول كذا وما أشبه ذلك، «وَالْأَرْحامَ» اتقوا الله فيهم أيها الناس صلوهم لا تفطعوهم وقربوهم لا تبعدوهم، هذا على قراءة النصب، وعلى قراءة الجر يكون المعنى واتقوا الله الذي تساءلون به وبالرحم كما تقول ناشدتك الله والرحم، وسألتك بالله وبالرحم، وكان الناس يعتادون هذا تنبيها لشدة المحافظة على الأرحام ودوام الاعتناء بهم. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله. ورويا عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسا له في اثره فليصل رحمه. ورويا عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة قاطع رحم.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولمل يزل «عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ١ لا يغيب عنه شيء من أموركم الباطنة والظاهرة قبل أن تقع منكم، فجدير بكم أن تنقوه أيها الناس وتحذروا مخالفته. قال تعالى «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» بأعيانها وما تولد منها ونمى عنها عند ما تستأنسون منهم الرشد وإمكان قيامهم بها كما سيأتي في الآية ٥.
نزلت هذه الآية في أولياء الأيتام إذ كانوا زمن الجاهلية يبدلون أحسن أموالهم بأقبح ما عندهم، ولهذا قال تعالى «وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ» أي مال اليتيم وسمي خبيثا مع أنه طيب لأن تناوله حرام ولا أخبث من الحرام «بِالطَّيِّبِ» بمالكم الحلال لأنه مهما كان قبيحا ودنيئا أو خبيثا فهو طيب لأنه حلال ولا أطيب من الحلال «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ» المحرمة عليكم وتضموها «إِلى أَمْوالِكُمْ»

صفحة رقم 515

فتنفقوا منها جميعا، لأنه لا يجوز الإنفاق من مال اليتيم وفي حال خلطها مع أموالكم عدم مبالاة في حفظها ومدعاة للإنفاق منها على أنفسكم دونهم، إذ يجب على ولي اليتيم أن يفرق بين أمواله وأموال يتيمه وأن ينفق على نفسه وغيره من ماله فقط، وعلى اليتامى من أموالهم إنفاقا بالمعروف إذا لم تسمح نفسه بالإنفاق عليهم من ماله وعدهم من جملة عياله «إِنَّهُ» الأكل من مال اليتيم أو تبديله بأحسن منه «كانَ» عند الله ولا يزال «حُوباً كَبِيراً» (٢) إثما عظيما عقابه عظيما عند الله.
مطلب في أخلاق الجاهلية وفوائد السلطان للبلاد والعباد. وأكل مال اليتيم:
كان رجل من غطفان معه مال كثير لابن أخيه، فلما بلغ منعه عمه منه، فترافعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلا عليهما هذه الآية فقالا أطعنا الله والرسول ونعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع إلى اليتيم ماله. هكذا كانت طاعة العرب الذين يسمونهم بعض الناس في خطبهم أجلافا، وما كانوا بأجلاف وإنما هم شم الأنوف، وقد هذبهم الإسلام فألانهم، وإلا فإن الخصال التي كانت عندهم من المروءة والشهامة والكرم ومكارم الآداب والأخلاق والعفو والصفح والعطف، لم تتحل بها أمة من الأمم الراقية لا قبل ولا بعد، وإنما يتأسى بهم من يفعل فعلهم، نعم كانت عندهم عصبية بعضهم لبعض وكان بينهم ظلم وفحش وجور وغلظة وقساوة من مقتضيات عاداتهم الجاهلية التي طبعوا عليها من مئات السنين، وقد محاها الإسلام وحرمها وأبدلها بأضدادها، ورب شيء محمود بالجاهلية مذموم في الإسلام، كما يكون ممدوحا في الشرع ومذموما بالطب وبالعكس، راجع ص ١٧ من حاشية الباجوري على ابن قاسم في كتاب الطهارة، وقد بقي آثار من أعمالهم الجاهلية في البوادي ووصلت إلى القرى، وقد توجد الآن عند بعض الأرياف فإنهم لا يورثون اليتيم ولا المرأة بل يرثونها، وذلك لقلة علمهم وعدم وجود العلماء عندهم وكثرة طمعهم، والقصور كله على الحكومة التي أهملتهم وتركتهم على ما هم عليه، وإلا لو أرسلت إليهم النصاح والمرشدين والمعلمين لما بقي لهذه العوائد من أثر، اللهم بصرهم لينفعوا عبادك وينشروا القسط في بلادك، لأن زمام الأمور بيد السلطان، وانه ليزع به أكثر مما يزع بالقرآن، فهو القطب الذي عليه مدار الدنيا، وقوام

صفحة رقم 516

الحدود، ونظام الحقوق، وهو حمى الله، وظله الممدود على عباده وبلاده، به يمتنع صريخهم، وينتصر مظلومهم، ويقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم. على أن غير العرب في ذلك الزمن كان أكثر وحشية منهم وأشد ظلما وأعظم تكبرا، وحتى الآن توجد فيهم هذه الخصال وأشنع وأقبح وأفظع، كما يذكرونه في جرائدهم.
قال تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى» الذين هم تحت تربيتكم إذا أردتم الزواج بهن «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» غيرهن وزوجوهن لغيركم وتزوجوا من شئتم من غيرهن «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» أي اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا فحسب، أما الزيادة على الأربع فحرام عليكم، وليس لكم أن تقتدوا بحضرة الرسول فيما هو من خصائصه، وهذا هو الحكم الشرعي. ولا دليل في هذه الآية على التسع بزعم جواز ضم الأعداد الثلاثة أي جمعها لأنها تكون عشرا لا تسعا بضم الواحدة التي قبل الاثنتين، لأنها مبدأ العدد، ولأن الخطاب للجميع، وسبب التكرار ليصيب كل ناكح يريد الجمع الذي أراده من العدد الذي أطلق له، كما إذا قلت لجماعة اقتسموا هذه الألف درهمين درهمين، أو عشرة عشرة، أو مئة مئة، فإن الواحد يناله أحد هذه الأعداد لا مجموعها، تدبر، يدل على هذا ما أخرجه أبو داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال اختر أربعا (أي واترك الباقي). وما أخرجه الترمذي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره رسول الله أن يختار منهن أربعا فقط. ومن هنا تعلم أن ما عليه بعض الإمامية ومن حذا حذوهم من تجويز الجمع بين التسعة لا يتفق وصريح الآية المؤيدة بهذه الأحاديث الصحيحة، ومخالف للإجماع، راجع أول سورة فاطر في ج ١. «فَإِنْ خِفْتُمْ» أيها الراغبون في زواج أكثر من واحدة «أَلَّا تَعْدِلُوا» بينهن «فَواحِدَةً» فقط فتقتصرون عليها «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من الجواري إذ لا يجب العدل بينهن «ذلِكَ» الاقتصار على الواحدة مع تحقق عدم العدل بين الأكثر أقرب و «أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» (٣) تميلوا عن الحق الذي أوجبه الله عليكم من القسمة

صفحة رقم 517

بين الأزواج فتجوروا على بعضهن، من عال يعول بمعنى مال يميل، وبمعنى جاوز يجاوز، ومنه عول الفرائض إذا جاوزت المسألة سهامها تسمى عولية، وعليه يكون المعنى الاكتفاء بالواحدة أقرب من أن لا تجاوزوا ما فرضه الله لكم.
وقال الشافعي وهو حجة في اللغة كغيرها: من عال صار ذا عيال أي أن لا تكثر عيالكم فتعجزوا عن القيام بهم، وقد خطأه أبو بكر الرازي باعتبار أن سياق الآية يبعد المعنى المراد من العيال وسباقها كذلك، إلا أنه قد لا يؤخذ بقوله لأنه لا وقوف له على كلام العرب مثله، على أنه يجوز استعمال كلمة في معنيين ومعان أيضا بما يناسبها، وهذا مما يؤسفني لأنه قد فتح بابا لبعض الحمقى فصاروا يعترضون على أسلافهم الكاملين من حيث لم يفهموا أقوالهم وليسوا بأهل لنزالهم، فقال سامحه الله إدا كان من كثرة العيال فيقال عال يعيل لا عال يعول، ولا يعلم أن العرب تقول عال الرجل عياله يعولهم، كما يقال مان ويمونهم إذا أنفق عليهم، وقد روى الأزهري عن الكسائي قال: عال الرجل إذا اقتصر، وأعال إذا كثر عياله. وروى الأزهري أيضا في كتاب تهذيب اللغة عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله (ألا تعولوا) أي لا تكثر عيالكم، وعليه فيكون هو المخطئ لا الشافعي ولكنه استعجل ولم يتثبت. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره بعد أن فند قول المخطئ: الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة، وذلك لأن اللغة العربية واسعة ولكلماتها معان كثيرة وان مجيئها لمعنى لا يعني أنها لا تكون لمعنى آخر، وإن من وقف على روحها وطاف على معناها وتفقأ في الإحاطة بمبانيها قد لا يخطىء أحدا لأنه يرى لكل وجهته، ولو أنه قال تكون بمعنى كذا وبمعنى كذا والأول أولى لمناسبة ما قبلها وما بعدها لكان خيرا له من أن يخطىء من هو أعلم منه، عفا الله عنه ووفقه لما به الصواب. هذا وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ومسلم عن عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ) الآية قالت يا ابن أخي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها (أي وهي ممن تحل له) فيرغب في جمالها أو مالها ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن (أي إذا لم يعدلوا في صداقهن

صفحة رقم 518

مثل أمثالهن) قالت عائشة فاستفتى الناس رسول الله بعد ذلك، فانزل (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) الآية ١٢٧ الآتية، وسيأتي تمام البحث في تفسيرها إن شاء الله تعالى القائل «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» عطية وهبة عن طيب نفس ورغبة جنان «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً» فوهبة لكم بلا تكليف منكم «فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (٤) هذا خطاب لأولياء النساء اليتامى وغيرهم، بالنظر لإطلاقها، أي أن الله يأمركم أيها الناس أن تعطوا النساء مهورهن كلها ولا تأخذوا منه شيئا إلا إذا سمحن لكم بشيء منه عن طيب نفس بعد أن يتسلمنه فلا مانع من أن تأخذوه، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا زوجوا المرأة لمن معهم في العشيرة لم يعطوها من مهرها شيئا بل يأخذونه كله إلا ما يمنحونها به من ركوبة أو لباس، وإذا زوجوها غريبا عنهم حملوها على بعير إليه وأكرموها بلباس لا يعطونها غيره، فنهاهم الله عن ذلك، وهذه العادة القبيحة لها بقية أيضا حتى الآن في عرب الأرياف والبادية، وكذلك عند الأكراد والجراكسة، وأيضا الشغار لا زال جاريا بينهم إلا أنهم يعطونها ركوبة ولباسا سواء كانت لقريب أو لغريب لا على الخيار في القريب كما هو في الجاهلية الأولى. الحكم الشرعي:
وجوب إعطاء تمام المهر للزوجة في الشغار وغيره، إذ يجب إعطاء البديلة مهر مثلبا على من يبدلها، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الشغار بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشغار في العقد، وما روياه عن عقبة بن عامر قال: قال صلّى الله عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم من الفروج. وذلك لأنهم لا يراعون حقوق البلديات بل يأكلون مهورهن، والأنكى من هذا أنه إذا لم تمتزج إحداهن مع زوجها فتركته أجبرت الأخرى على ترك زوجها أيضا من قبل وليها بصورة لا يرضاها الشرع ولا المروءة، وهذا مما نفت في روع حضرة الرسول ﷺ حتى نهى عن المبادلة بالحديثين المارّين وغيرهما. واعلم أن ماجرينا عليه من كون الخطاب للأولياء أولى مما مشى عليه الغير بجعله للأزواج، لأن الخطاب فيما قبلها للناكحين مع أن ذكر الناكحين جاء استطرادا في بحث اليتامى الذي حذر الله أولياءهم من أكل أموالهم، فجعل الخطاب إليهم أيضا بتحذيرهم من أكل المهور

صفحة رقم 519

أولى وأنسب بالمقام، وأليق للسياق، وأحسن بالسباق، ولأن العادة المطّردة أن الأولياء هم الذين يأكلون صداق بناتهم الأزواج، تدبر. ثم خاطب أولياء اليتامى أيضا بقوله عز قوله.
مطلب في الوصايا وأموال الأيتام وحفظها وتنميتها ورخصة الأكل منها للمحتاج:
«وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» وهذا عام في أموال اليتامى وغيرهم وإن السياق يعرفه إليهم، لأن العبرة لعموم اللفظ، أي لا تعطوا أموالكم مداينة أو تجارة أو أمانة أو شركة أو بأي وجه كان سواء كان المال لكم خاصة أو للأيتام الكائن تحت حفظكم وتنميتكم إلى السفهاء الذين لا يؤمل منهم الأداء ولا حسن التدبير فيها لعدم قدرتهم على إصلاحها بأنفسهم، والصغير وغير المجرب والمبذر وضعيف العقل والملكات كلهم في حكم السفيه، فلا يجوز إعطاء المال لهم بالوجوه الأربعة المذكورة آنفا أو غيرها لمظنة التفريط فيه وإتلافه وأكله، وإنما يدخل في هذه مال اليتيم بالإضافة لوليه لأنه تحت يده وبتصرف فيه بحق الولاية عليه، فكما أنه لا يجوز أن يسلم ماله للسفيه لا يجوز أن يسلم مال يتيمه إليه بل من باب أولى أن يحافظ عليه أكثر من ماله لأنه من قبيل الأمانة، وكونه لليتيم، وقد علمت ما ذكر الله عن الأمانة في سورة الأحزاب، وما سيأتي في الآية ١٠ بحق أموال اليتامى، ولهذا لا يجوز تسليم مال اليتيم لليتيم إلا إذا تحقق لديه رشده وقدرته على تنميته والمحافظة عليه والانتفاع به بالمعروف، لأن لفظ السفيه يدخل في عمومه اليتيم وغيره، وسواء كان كبيرا أو صغيرا لأن حكمه حكم المجنون والمعتوه والرقيق والمديون المستغرق والمكاري المفلس، فهؤلاء كلهم ومن كان على شاكلتهم لا يجوز إعطاؤهم المال، لأنه لا يؤمل استيفاؤه منهم ولا الإصلاح فيما يأخذونه، ولهذا نهى الشارع عن معاملة هؤلاء الأصناف، لأن المال كما يجب حفظه يجب صرفه في مصارفه، ومن هنا منعت المادة ١٥٧ فما بعدها من المجلة الجليلة معاملة هؤلاء، ثم بين جل بيانه قيمة الأموال بقوله «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» فيها لأبدانكم ومعاشكم ومكانتكم أنتم ومن تمونونه، لأنه قوام الناس وملاك أمرهم. ومما يدل

صفحة رقم 520

على أن الخطاب في الأصل في هذه الآيات المتقدمة لأولياء الأيتام، وأن المال المذكور مالهم قوله جل قوله «وَارْزُقُوهُمْ فِيها» بأن تتجروا فيها وتنفقوا عليهم من أرباحها لامن أصلها، لأنها إذا لم تزد تنقص وتخلص وتأكلها الزكاة فيصبحون فقراء عالة عليكم وكلا على الناس، وقد جاء بالخبر اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة «وَاكْسُوهُمْ» أيضا من نمائها بحسب أمثالهم «وَقُولُوا لَهُمْ» أيها الأولياء الكاملون عند ما يريدون منكم زيادة على المعتاد من النفقة واللباس «قَوْلًا مَعْرُوفاً» (٥) بأن هذا المال لكم وربحه لكم فإذا كبرتم وكنتم صالحين راشدين سلمناكم إياه، فتتصرفون فيه كيفما شئتم وأردتم من طرق التجارة ومن النفقة والكسوة وغيرها، لأنا مكلفون بالاقتصاد بها، وأن لا نتفق عليكم إلا بقدر الكفاية وبنسبة أمثالكم لتسكن أنفسهم ويرغبوا بأن يكونوا أهلا لاستلامها، وهكذا من الكلام الطيب والقول الحسن والأعمال المرغبة شرعا وعقلا لأن الفعل الجميل والكلام اللين يؤثر في القلب فيسبب إزالة السفه عنهم، ولهذا يقول الله تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتامى» البالغين الكبار، وسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه من قبل، أي اختبروهم وامتحنوهم قبل أن تسلموهم أموالهم، ولا تغتروا بكبرهم وشقشة ألسنتهم وأدبهم أمامكم، فإنهم قد يكونون على خلافه مع غيركم. وقد ذكرنا قبلا اليتيم الذي مات أبوه، ومعناه المنفرد، ومنه الدرة اليتيمة، والعجي من ماتت أمه، واللطيم من فقد أبويه «حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» وزال عنهم اسم اليتيم وصاروا أهلا للزواج بأن أكملوا الثامنة عشرة من عمرهم «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» بالاختبار الذي أجريتموه وتحققتم رزانة عقولهم وقدرتهم على إصلاح أموالهم وأمانتهم عليها «فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» ليتصرفوا فيها بأنفسهم لأنكم أديتم ما عليكم نحوهم وقمتم بواجبكم في أموالهم، أما إذا لم يتحقق لكم رشدهم ولا صلاحيتهم للانتفاع بأموالهم فلا تعطوهم إياها، والأولى بالولي أن يدفع لليتيم أولا بعض ماله ويأمره بالاتّجار به، فإن تبين له صلاحه ولياقته واقتصاده ووضع ما يصرفه موضعه المقبول أعطاه بقية ماله لأنه راشد يتمكن من التصرف به، وإن رأى العكس فهو سفيه لا يسلمه شيئا، ثم يختبره بالدين فإن رآه مجتنبا الفواحش

صفحة رقم 521

والمعاصي من كل ما يسقط العدالة الشرعية فهو صالح لتسلّم ماله، وإلا فلا، والاختبار الفعلي كهذا أوثق من الاختبار القولي والنظري، وإذا سلم الولي أو الوصي اليتيم شيئا قبل الاختبار والتحقيق عن حاله فيكون ضامنا
كما هو موضح بكتب الفقه والمجلة الجليلة. الحكم الشرعي عدم جواز دفع المال إلى السفيه مطلقا بقطع النظر عن عمره وعلمه وعقله وجواز دفعه إلى من يثبت رشده وسن الرشد من واحد وعشرين سنة إلى خمس وعشرين، وسن بلوغ البنت سبع عشرة سنة على رأي أبي حنيفة وعليه العمل في المحكمة الشرعية، أو يحتلمان لقوله تعالى (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) الآية ٦٠ من سورة النور الآتية، وهذان الشرطان للنساء والرجال ويختص النساء بشرطين آخرين الحيض والحبل، وهذا هو المفتى به، وقالوا إن المرأة حكمها حكم السفيه لنقصان عقلها وقلة تدبيرها، فلا يسلم إليها مال ابنها وزوجها وغيرهما، وهذا على الغالب لأن منهن من هي أدرى من بعض الرجال وأوفر عقلا وأحسن تدبيرا «وَلا تَأْكُلُوها» أيها الأولياء فتسرفوا فيها «إِسْرافاً» بغير حق «وَ» لا تبادروا في إنفاقها «بِداراً» قبل «أَنْ يَكْبَرُوا» فتفرطوا بها وتستعجلوا بإنفاقها عليهم. واعلم أن كلمة إسرافا وبدارا لم تكرر في القرآن ثم أشار إلى تحذير الأولياء من أكل مال اليتيم بقوله «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» عن قربان مال اليتيم، فلا يأكل ولا يأخذ منه شيئا ما لقاء الاشتغال بتنميته وحفظه، بل يحتسب ذلك ويطلب أجره من الله الذي لا يضيع عمل عامل. «وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ» من مال اليتيم بقدر أجر مثله فيما لو كان نصب فيما عليه بالأجرة، أو أنه اشتغل بمال اليتيم فلا يأخذ من ربحه إلا بقدر أمثاله «بِالْمَعْرُوفِ» الذي هو جار عادة بين الناس ومتعارف بينهم كالربع من الربح أو الثلث على الكثير، روى أبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم، فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متاثل. المتأثل الذي ينفق على أهله ونفسه ويكسوهم أفضل وأحسن من أمثاله. الحكم الشرعي جواز أخذ الولي من مال اليتيم إذا كان محتاجا على سبيل القرض دون فائدة ما بقدر كفايته

صفحة رقم 522

فقط، على أنه إذا كان ممن تجب عليه نفقته وكان غير كسوب فله أن يطلب فرض نفقة له في مال اليتيم الغني الذي هو تحت وصايته على أن يرجع اليتيم عليه بما أخذه أو النفقة عند يساره، وإذا لم يوسر فلا قضاء عليه، على أن تكون النفقة نفقة، فإذا تجاوزها فهو آثم وعليه قضاء المتجاوز فقط «فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» بعد ما تحققتم صلاحهم على الوجه المار ذكره «فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ» وهذا الأمر على طريقة الندب لإزالة التهمة، وإلا فحكم الولي حكم الأمين يصدق بقوله على براءة ذمته، وجاز إقامة البينة تحاشيا عن الحلف. ومما يدل على أن الأمر هنا للندب قوله تعالى «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (٦) على ما ادعى به من الإنفاق على اليتيم من ماله حال صغره وعلى ما ربح به وعلى ما أكل من ربحه إذا كان اشتغل به أو من نفس المال إذا كان عاجزا فقيرا ممن تلزمه نفقته، وطنه بقدر الحاجة مثل نفقة الفقراء، ويكتفي بيمينه بان أكله لم يكن لطمع فيه وإنه لم يبذر ولم يسرف في جميع ذلك وإنه قد حافظ عليه بقدر الاستطاعة، وعلى هذا العمل الآن وإلى آخر الدوران إن شاء الله إذا قيض لهذه الأمة من يحكم بشرعه هذا، ولو لم يصدق الولي أو الوصي بقوله فقط لما قبل أحد أن يكون وصيا على يتيم أو قيما على سفيه أو غائب أو مجنون أو شبهه، قال تعالى «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» مقدر في علم الفرائض وأما أصوله فستأتي بعد «وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» أيضا مبين أصله في الكتاب، وفرعه في السنة واجتهاد الفقهاء المجمع عليه «مِمَّا قَلَّ مِنْهُ» من المال المتروك «أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» (٧) لكل منهم كما سيأتي بعد. قالوا كان توفي أوس بن ثابت الأنصاري فترك زوجته أم كهّة وثلاث بنات، فأخذ أبناء عمه سويد وعرفجه ماله ولم يعطياها ولا بناتها شيئا لأنهم كانوا لا يورثون النساء، وهذه أيضا باقية من بقايا الجاهلية حتى الآن لدى عرب الأرياف والبوادي وبعض الأعاجم على اختلاف مللهم ونحلهم، فشكت أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فاستدعاهما فقالا إن ولدها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلّا ولا
ينكبن عدوا، وإن العادة المتعارفة عندنا عدم توريث مثلهم وانحصار الإرث فيمن يقاتل ويجوز الغنيمة

صفحة رقم 523

ويحمي الحوزة، فأنزل الله هذه الآية، وإذ لم يبين فيها ما هو نصيب كل منهم أوعز إليهما أن لا يفرطا بشيء من المال حتى ينزل الله مقدار النصيب المار ذكره أول هذه الآية. أما ما جاء بقوله صلّى الله عليه وسلم ساووا بين أولادكم بالعطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء، الا فاستوصوا بالنساء خيرا، فهو بعد نزول مقدار لنصيب الفرائض. قال تعالى «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» للميراث «أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ» الذين لا حظّ لهم في الإرث «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» أيها الوارثون وجودوا عليهم بما تسمح به نفوسكم إذا كان المال لكم وحدكم وأنتم كبار وإلّا فإن كان فيمن يستحق الإرث صغير أو سفيه أو غائب فليس لكم أن تعطوا منه شيئا إلا محسوبا على نصيبكم «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (٨) عند ما تعطونهم ولا تعنفوهم على حضورهم ولا تمنوا عليهم بما تعطونه لهم واعتذروا من القليل إن لم تسمح نفسكم بأكثر منه وإذا كان الميراث للصغار أو الغائبين أو السفهاء فاعتذروا إليهم بعدم جواز إعطائهم شيئا منه لأنهم لا حق لهم بالتصرف به ولا دليل لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية الميراث الآتية، لأن الأمر على طريق الندب لا الوجوب ولأنهم غير وارثين، لأن قريب الوارث أو الوصي على القاصرين أو اليتيم على الغائبين والسفهاء لا يكون وارثا دائما إذ قد يكون غير وارث «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ» يحرضون المريض على الإيصاء بماله أو الإعطاء منه حالة المرض أو التصدق بأكثر من الثلث أو بالثلث على قول كما مرت الإشارة إليه في الآية ١٨٢ من سورة البقرة، ويحبذون له ذلك فيسببون فاقة أولاده من بعده، وليحذر أيضا الأوصياء الذين لا يحافظون على أموال القاصرين، وليعلموا أنه كما أنهم «لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ» وراءهم، وقد لمحت الآية ٢٦٧ من سورة البقرة إلى هذا المعنى أي خلفوا «ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» من حيث لا يرضونه لأنفسهم، فلا يجوز أن يرضوه لغيرهم، قال صلّى الله عليه وسلم لا يكمل ايمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يجب لنفسه «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» أمثال هؤلاء وليتباعدوا عما نهوا عنه، فلا يحملوا المريض على ما يئول لفقر أولاده، بل يأمرونه بالنظر لحالة ولده ويمنعونه من الوصية والصدقة والعطية بالثلث فما فوق، وإن كان ولا بد

صفحة رقم 524
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية