
كما قال تعالى: «يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» كأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته، لأنه شديد العقاب، عظيم السطوة.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي إنه مشرف على أعمالكم ومناشئها من نفوسكم، وتأثيرها فى أحوالكم لا يخفى عليه شىء من ذلك، فلا يشرع لكم من الأحكام إلا ما فيه صلاحكم وسعادتكم فى الدنيا والآخرة.
وفى ذلك تنبيه لنا إلى الإخلاص فى أعمالنا، إذ من كان متذكرا أن الله مراقب لأعماله كان جديرا أن يتقيه ويلتزم حدوده.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢ الى ٤]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
تفسير المفردات
اليتيم لغة: من مات أبوه مطلقا، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، ولا تتبدلوا: أي لا تستبدلوا، والخبيث: هو الحرام، والطيب: هو الحلال، حوبا كبيرا:
أي إثما عظيما، القسط: النصيب، وقسط: جار. قال الله تعالى: َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»
وأقسط: عدل. قال الله تعالى: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» ما طاب لكم: أي مامال إليه القلب منهن، مثنى وثلاث ورباع: أي ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، ذلك أدنى ألا تعولوا: أي ذلك أقرب إلى عدم العول

والجور، صدقاتهن: مهورهن، نحلة: أي عطية وهبة، هنيئا مريئا: الهنيء ما يستلزه الآكل، والمريء: ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه وتحسن تغذيته.
المعنى الجملي
بعد أن افتتح سبحانه السورة بذكر ما يجب على العبد أن ينقاد له من التكاليف، ليبتعد عن سخطه وغضبه فى الدنيا والآخرة- شرع يذكر أنواعها، وأولها إيتاء اليتامى أموالهم، وثانيها حكم ما يحل عدده من الزوجات ومتى يجب الاقتصار على واحدة، ثم وجوب إيتاء الصداق لهن.
الإيضاح
(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) المراد بإيتاء الأموال إياهم: جعلها لهم خاصة وعدم أكل شىء منها بالباطل، أي أيها الأولياء والأوصياء احفظوا أموال اليتامى ولا تتعرضوا لها بسوء وسلموها لهم متى آنستم منهم الرشد، فاليتيم ضعيف لا يقدر على حفظ ماله والدفاع عنه.
(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي اكتسبتموه من فضل الله.
وخلاصة ذلك- لا تتمتعوا بمال اليتيم فى المواضع والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم، فاذا فعلتم ذلك فقد جعلتم مال اليتيم بدلا من مالكم.
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) المراد من الأكل سائر التصرفات المهلكة للأموال، وإنما ذكر الأكل لأن معظم ما يقع من التصرفات فهو لأجله، و (إِلى) بمعنى مع أي لا تأكلوا أموالهم مخلوطة ومضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بينهما، لأن فى ذلك قلة مبالاة بما لا يحل وتسوية بين الحرام والحلال.
(إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) أي إن هذا الأكل ذنب عظيم وإثم كبير.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم ألا تتزوجوا بها فان الله جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوّج بغيرهن واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا، وتقول العرب فى كلامها اقتسموا ألف الدرهم هذا درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة على معنى أن كل واحد يأخذ درهمين فحسب أو ثلاثة أو أربعة ولو أفردت وقلت اقتسموه درهمين وثلاثة وأربعة لم يسغ استعمالا.
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) أي ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط، والخوف من عدم العدل يصدق بالظن والشك فى ذلك، فالذى يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يثق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها.
(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي اقتصروا على واحدة من الحرائر وتمتعوا بمن تشاءون من السراري لعدم وجوب العدل بينهن، ولكن لهن حق الكفاية فى نفقات المعيشة بما يتعارفه الناس.
(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي اختيار الواحدة أو التسرى أقرب من عدم الجور والظلم.
والخلاصة- إن البعد من الجور سبب فى تشريع الحكم، وفى هذا إيماء إلى اشتراط العدل ووجوب تحرّيه، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ».
والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان كالتسوية فى المسكن والملبس ونحو ذلك، أما ما لا يدخل فى وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه، وقد كان النبي ﷺ فى آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه، لكنه لا يخصها بشىء دونهن إلا برضاهن وإذنهن،
وكان يقول

«اللهم إن هذا قسمى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك»
يريد ميل القلب، وقد استبان لك مما سلف أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق، فهى ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة باقامة العدل والأمن من الجور.
وإن من يرى الفساد الذي يدب فى الأسر التي تتعدد فيها الزوجات ليحكم حكما قاطعا بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال ولا يستتب فيه نظام.
فانك ترى إحدى الضرتين تغرى ولدها بعداوة إخوته، وتغرى زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وكثيرا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد فى الأسرة كلها.
إلى أن ذلك ربما جر إلى السرقة والزنا والكذب والقتل فيقتل الولد والده والوالد ولده والزوجة زوجها، والعكس بالعكس كما دونت ذلك سجلات المحاكم.
فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار، أن ينظروا إلى علاج لهذه الحال ويضعوا من التشريع ما يكفل منع هذه المفاسد على قدر المستطاع.
مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه
الأصل فى السعادة الزوجية أن يكون للرجل زوج واحدة، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغى أن يربى عليه الناس ويقنعوا به، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين، أو حاجة الأمة فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه، ومن ذلك:
(١) أن يتزوج الرجل امرأة عاقرا وهو يود أن يكون له ولد، فمن مصلحتها أو مصلحتهما معا أن تبقى زوجا له ويتزوج بغيرها، ولا سيما إذا كان ذا جاه وثروة كأن يكون ملكا أو أميرا.

(٢) أن تكبر المرأة وتبلغ سن اليأس ويرى الرجل حاجته إلى العقب، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة وكفاية الأولاد الكثيرين وتعليمهم.
(٣) أن يرى الرجل أن امرأة واحدة لا تكفيه لإحصانه لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء، ومزاجها بعكس هذا، أو يكون زمن حيضها طويلا يأخذ جزءا كبيرا من الشهر فهو حينئذ أمام أحد أمرين: إما التزوج بثانية، وإما الزنا الذي يضيع الدين والمال والصحة، ويكون هذا شرا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة فى الإسلام.
(٤) أن تكثر النساء فى الأمة كثرة فاحشة كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال، فلا وسيلة للمرأة فى التكسب فى هذه الحال إلا ببيع عفافها، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها وعلى ولد ليس له والد يكفله، ولا سيما عقب الولادة ومدة الرضاعة.
والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال فى المعامل ومحال التجارة وغيرها من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض والوقوع فى الشقاء والبلاء حتى كتبت غير واحدة من الكاتبات الإنجليزيات، وأبانت أن هذا التدهور الخلقي لا علاج له إلا بتعدد الزوجات، مع أن هذا ضد مصلحة المرأة، وهى تنفر منه بمقتضى شعورها ووجدانها، وهاك ما قالته إحداهن فى بعض جرائدهن بإيجاز وتلخيص:
لقد كثرت الشاردات من بناتنا وقل الباحثون عن أسباب هذا البلاء، وإنى لأنظر إليهن وقلبى ينفطر أسى وحزنا عليهن، وماذا يفيد بثي وحزنى وإن شاركنى فيه الناس جميعا، لا فائدة إلا العمل على ما يمنع هذه الحال، وهو كما رأى (تومس) إباحة التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوسيلة تصبح بناتنا ربات بيوت.
إذ لم يجر إلى هذا البلاء إلا إجبار الأوربى على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى أعمال الرجال ولا بد أن يتفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، فأى ظن وحدس يحيط بعدد الرجال

المتزوجين الذين لهم أولاد من السفاح وقد أصبحوا عالة وعارا على المجتمع ولو أبيح التعدد لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من عذاب ولسلم عرضهن وعرض أولادهن من فداحة الحال التي نراها الآن.
ونشرت كاتبة أخرى (مس إنى رود) فى جريدة أخرى تقول:
لأن يشتغل بناتنا فى البيوت خوادم أو شبه خوادم خير لهن وللمجتمع من اشتغالهن فى المعامل حيث تلوّث البنت بأذران الرذيلة التي تبقى لا صقة بها مدى حياتها.
ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، والخادم والرقيق ينعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، وإنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطتهن الرجال.
فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها وتقوم بأعمال البيت وتترك أعمال الرجال للرجال فذلك أضمن لعفافها وهو الكفيل بسعادتها اه.
وصفوة القول: إن تعدد الزوجات يخالف المودة والرحمة وسكون النفس إلى المرأة وهى أركان سعادة الحياة الزوجية، فلا ينبغى لمسلم أن يقدم عليه إلا ضرورة مع الثقة بما أوجبه الله من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه وامرأته وولده وأمته.
حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
راعى النبي ﷺ المصيحة فى اختيار كل زوجة من زوجاته، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن والعدل بينهن وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم الأحكام الخاصة بالنساء مما ينبغى أن يعلمنه منهن لامن الرجال، ولو كان قد ترك واحدة ما كان فيها الغناء كما لو ترك التسع.

وقصارى القول إنه عليه السلام ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء والمترفون من التمتع بالنساء، إذ لو كان قد أراد ذلك لاختارهن من حسان الأبكار لا من الكهلات الثيبات كما
قال لمن اختار ثيبا «هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك» رواه الشيخان.
(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الخطاب للأزواج أي وأعطوا النساء اللواتى تعقدون عليهن المهور عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغى أن تكون بينكما، وآية من آيات المحبة، ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي تجب أن تكنفكما وتحيط بسماء المنزل الذي تحلان فيه، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك، مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته فى الحياة.
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) أي فإن طابت نفوسهن باعطائكم شيئا من الصداق من غير ضرار ولا خديعة فكلوه هنيئا مريئا ولا ذنب عليكم ولا إثم فى أخذه.
ومن ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به فاذا طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له، ألا ترى أنّ الله تعالى نهى عن أخذ شىء من المرأة فى طور المفارقة فقال: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» فالتحذير من أخذه فى طور الرغبة والتحبب وإظهار القدرة على ما يجب عليه من أعباء الزوجية من كفالة المرأة والإنفاق عليها يكون أشد وآكد، ولكن حب المل جعل الرجال يماكسون فى المهر كما يماكسون فى سلع التجارة، وصار حبهم للمحافظة على الشرف والكرامة دون حبهم للدرهم والدينار.