
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهي الجنة وَفَضْلٍ يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة. كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً فيسلكهم، بتمسكهم بالبرهان والنور المبين، الطريق الواضح القصد. وهو الإسلام. وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة، على الوعد بالهداية إليها، على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين- للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصليّ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
يَسْتَفْتُونَكَ أي: في ميراث الكلالة. استغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة.
والمستفتي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
روى الشيخان «١» وغيرهما عن جابر ابن عبد الله قال: دخل علي النبيّ ﷺ وأنا مريض. فتوضأ فصب عليّ. أو قال: صبوا عليه. فعقلت فقلت: لا يرثني إلا كلالة. فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
أي: مات. واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به. بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث. ولطروّ هذا العرف قال الشهاب في (شرح الشفاء) : إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولا يعتدّ بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية والله أعلم. كذا في (تاج العروس). لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي: الميت، من المال.

قال ابن كثير: تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد. وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير «١» عنه بإسناد صحيح. ولكن الذي يرجع إليه، قول الجمهور. وقضى الصديق رضي الله عنه أنه الذي لا ولد له ولا والد. ويدل على ذلك قوله (وله أخت) ولو كان معها أب لم ترث شيئا، لأنه يحجبها بالإجماع. فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضا، عند التأمل أيضا. لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد. بل ليس لها ميراث بالكلية. وروى الإمام أحمد «٢» عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم؟ فأعطى الزوج النصف والأخت النصف. فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله ﷺ قضى بذلك. وقد نقل ابن جرير «٣» وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان (في الميت ترك بنتا وأختا) : أنه لا شيء للأخت لقوله إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ قال: فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا. فلا شيء للأخت. وخالفهما الجمهور فقالوا (في المسألة) : للبنت النصف بالفرض. وللأخت النصف الآخر بالتعصيب. بدليل غير هذه الآية. وهذه نقصت أن يفرض لها في هذه الآية. وأما وراثتها بالتعصيب. فما رواه البخاريّ «٤» من طريق سليمان عن إبراهيم الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، النصف للبنت والنصف للأخت. ثم قال سليمان (قضى فينا) ولم يذكر (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري «٥» أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعريّ عن بنت، وبنت ابن، وأخت؟ فقال. للبنت النصف وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني. فسأل ابن مسعود فأخبره بقوله أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. أقضي فيها بما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم:
النصف للبنت. ولبنت الابن السدس، تكملة للثلثين. وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. قوله تعالى وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي: والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة،
(٢) أخرجه الإمام أحمد في: المسند ٥/ ١٨٨.
(٣) تفسير ابن جرير ٩/ ٤٤٣.
(٤) أخرجه البخاريّ في: الفرائض، باب ميراث البنات، حديث ٢٤٧٩.
(٥) أخرجه البخاريّ في: الفرائض، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، حديث ٢٤٨٩.

وليس لها ولد أي: ولا والد. لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئا. فإن فرض أن معه من له فرض، صرف إليه فرضه. كزوج أو أخ من أم. وصرف الباقي إلى الأخ. لما
ثبت في الصحيحين «١» عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: ألحقوا الفرائض بأهلها. فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر.
وقوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أي: فإن كان، لمن يموت كلالة، أختان- فرض لهما الثلثان. وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما. ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين. كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ [النساء: ١١]. وقوله تعالى وَإِنْ كانُوا أي: من يرث بطريق الأخوة إِخْوَةً أي مختلطة رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ أي منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي: كراهة أن تضلوا في ذلك. أو على تقدير (اللام ولا) في طرفي (أن) أي لئلا تضلوا. وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير. وإنما هو مفعول (يبين) أي: يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم. لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه. ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام، والالتفات إلى أول السورة وهو يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: ١] فإنه أمرهم بالتقوى. وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية. ولما تم تفصيله قال لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم. فإن الشر إذا عرف اجتنب. والخير إذا عرف ارتكب.
قال العلامة أبو السعود: وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال، من غير تصريح بما هو الحق والصواب.
وليس كذلك. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عَلِيمٌ مبالغ في العلم. فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
تنبيهات:
الأول- اعلم أنه تعالى لما بين في أول السورة أحكام الأموال، ختم آخرها بذلك أيضا ليكون الآخر مشاكلا للأول. وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين.
ومسلم في: الفرائض، حديث ٢ و ٣.

الثاني- أنزل في الكلالة آيتان: إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول هذه السورة. والأخرى في الصيف وهي هذه الآية. ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف.
الثالث- روى البخاريّ «١» ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال:
آخر سورة نزلت براءة. وآخر آية نزلت: يستفتونك. والله سبحانه وتعالى أعلم. وهو الموفق والمعين.
وقد تم بحمده تعالى ما تيسر من (محاسن تأويل) هذه السورة الكريمة ضحوة الجمعة، غرة صفر الخير عام (١٣٢٠) في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية. على يد كاتبه وجامع العبد الضعيف الذليل الجهول، محمد جمال الدين القاسميّ، غفر المولى له وأعانه على الإتمام.
بمنه وكرمه ويليه الجزء الرابع. وأوله: (سورة المائدة)
ومسلم في: الفرائض، حديث ١٠- ١٣.

فهرس الجزء الثالث
سورة النساء الآية ١ ٥ الآية ٢ ٩ الآية ٣ ١٢ الآية ٤ ٢٦ الآية ٥ ٢٧ الآية ٦ ٢٩ الآية ٧ ٣٢ الآية ٨ ٣٢ الآية ٩ ٣٤ الآية ١٠ ٣٦ الآية ١١ ٣٧ الآية ١٢ ٤٢ الآية ١٣ ٤٦ الآية ١٤ ٤٧ الآية ١٥ ٤٧ الآية ١٦ ٤٨ الآية ١٧ ٤٩ الآية ١٨ ٥١ الآية ١٩ ٥١ الآية ٢٠ ٥٦ الآية ٢١ ٥٧ الآية ٢٢ ٦٢ الآية ٢٣ ٦٣ الآية ٢٤ ٧٠ الآية ٢٥ ٧٩ الآية ٢٦ ٨٤ الآية ٢٧ ٨٤ الآية ٢٨ ٨٤ الآية ٢٩ ٨٥ الآية ٣٠ ٨٧ الآية ٣١ ٨٨ الآية ٣٢ ٩٠ الآية ٣٣ ٩١ الآية ٣٤ ٩٦

الآية ٣٥ ١٠٠ الآية ٣٦ ١٠٢ الآية ٣٧ ١٠٨ الآية ٣٨ ١٠٩ الآية ٣٩ ١١١ الآية ٤٠ ١١١ الآية ٤١ ١١٣ الآية ٤٢ ١١٤ الآية ٤٣ ١١٥ الآية ٤٤ ١٣٧ الآية ٤٥ ١٣٨ الآية ٤٦ ١٣٨ الآية ٤٧ ١٤٣ الآية ٤٨ ١٤٦ الآية ٤٩ ١٦٩ الآية ٥٠ ١٧١ الآية ٥١ ١٧٢ الآية ٥٢ ١٧٢ الآية ٥٣ ١٧٣ الآية ٥٤ ١٧٤ الآية ٥٥ ١٧٥ الآية ٥٦ ١٧٥ الآية ٥٧ ١٧٦ الآية ٥٨ ١٧٧ الآية ٥٩ ١٨٤ الآية ٦٠ ١٩٣ الآية ٦١ ١٩٣ الآية ٦٢ ١٩٦ الآية ٦٣ ١٩٧ الآية ٦٤ ١٩٨ الآية ٦٥ ٢٠٠ الآية ٦٦ ٢١٤ الآية ٦٧ ٢١٥ الآية ٦٨ ٢١٦ الآية ٦٩ ٢١٦ الآية ٧٠ ٢١٩ الآية ٧١ ٢٢٠ الآية ٧٢ ٢٢١ الآية ٧٣ ٢٢٢ الآية ٧٤ ٢٢٢
صفحة رقم 492
الآية ٧٥ ٢٢٣ الآية ٧٦ ٢٢٥ الآية ٧٧ ٢٢٦ الآية ٧٨ ٢٢٨ الآية ٧٩ ٢٣٠ الآية ٨٠ ٢٣١ الآية ٨١ ٢٣١ الآية ٨٢ ٢٣٣ الآية ٨٣ ٢٣٤ الآية ٨٤ ٢٣٧ الآية ٨٥ ٢٤٠ الآية ٨٦ ٢٤٣ الآية ٨٧ ٢٤٩ الآية ٨٨ ٢٥٠ الآية ٨٩ ٢٥٢ الآية ٩٠ ٢٥٣ الآية ٩١ ٢٥٥ الآية ٩٢ ٢٥٦ الآية ٩٣ ٢٦٢ الآية ٩٤ ٢٧٧ الآية ٩٥ ٢٨٣ الآية ٩٦ ٢٨٥ الآية ٩٧ ٢٨٧ الآية ٩٨ ٢٨٩ الآية ٩٩ ٢٩٠ الآية ١٠٠ ٢٩٣ الآية ١٠١ ٢٩٨ الآية ١٠٢ ٣٠٩ الآية ١٠٣ ٣١٠ الآية ١٠٤ ٣١٨ الآية ١٠٥ ٣١٩ الآية ١٠٦ ٣١٩ الآية ١٠٧ ٣١٩ الآية ١٠٨ ٣١٩ الآية ١٠٩ ٣١٩ الآية ١١٠ ٣٢٥ الآية ١١١ ٣٢٦ الآية ١١٢ ٣٢٦ الآية ١١٣ ٣٢٦ الآية ١١٤ ٣٢٧
صفحة رقم 493
الآية ١١٥ ٣٢٩ الآية ١١٦ ٣٤٠ الآية ١١٧ ٣٤١ الآية ١١٨ ٣٤٣ الآية ١١٩ ٣٤٣ الآية ١٢٠ ٣٤٦ الآية ١٢١ ٣٤٧ الآية ١٢٢ ٣٤٧ الآية ١٢٣ ٣٤٧ الآية ١٢٤ ٣٤٨ الآية ١٢٥ ٣٤٩ الآية ١٢٦ ٣٥٤ الآية ١٢٧ ٣٥٥ الآية ١٢٨ ٣٦٠ الآية ١٢٩ ٣٦٤ الآية ١٣٠ ٣٦٥ الآية ١٣١ ٣٦٥ الآية ١٣٢ ٣٦٦ الآية ١٣٣ ٣٦٦ الآية ١٣٤ ٣٦٧ الآية ١٣٥ ٣٦٧ الآية ١٣٦ ٣٦٩ الآية ١٣٧ ٣٧٠ الآية ١٣٨ ٣٧٢ الآية ١٣٩ ٣٧٢ الآية ١٤٠ ٣٧٣ الآية ١٤١ ٣٧٦ الآية ١٤٢ ٣٧٧ الآية ١٤٣ ٣٧٩ الآية ١٤٤ ٣٨٠ الآية ١٤٥ ٣٨٠ الآية ١٤٦ ٣٨١ الآية ١٤٧ ٣٨٢ الآية ١٤٨ ٣٨٣ الآية ١٤٩ ٣٨٦ الآية ١٥٠ ٣٨٧ الآية ١٥١ ٣٨٨ الآية ١٥٢ ٣٨٨ الآية ١٥٣ ٣٨٩ الآية ١٥٤ ٣٨٩
صفحة رقم 494
الآية ١٥٥ ٣٩٠ الآية ١٥٦ ٣٩١ الآية ١٥٧ ٣٩١ الآية ١٥٨ ٣٩٢ الآية ١٥٩ ٤٤١ الآية ١٦٠ ٤٤٥ الآية ١٦١ ٤٤٥ الآية ١٦٢ ٤٤٦ الآية ١٦٣ ٤٤٨ الآية ١٦٤ ٤٤٨ الآية ١٦٥ ٤٦٩ الآية ١٦٦ ٤٧٥ الآية ١٦٧ ٤٧٦ الآية ١٦٨ ٤٧٦ الآية ١٦٩ ٤٧٦ الآية ١٧٠ ٤٧٦ الآية ١٧١ ٤٧٧ الآية ١٧٢ ٤٨٢ الآية ١٧٣ ٤٨٦ الآية ١٧٤ ٤٨٦ الآية ١٧٥ ٤٨٧ الآية ١٧٦ ٤٨٧
صفحة رقم 495
[المجلد الرابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدةسميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن. وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني بين الله وبين عبيده. أفاده المهايميّ.
وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.
قال الشهاب الخفاجي: السورة مدنية، إلّا قوله تعالى:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ | إلخ، فإنها نزلت بمكة. انتهى. |
الأول- إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة. والمدني ما نزل بالمدينة، وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في (الإتقان) أن المكّي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.
الثاني- بقي عليه، لو مشي على ذاك الاصطلاح، آيات آخر.
قال السيوطي في (الإتقان) : في (النوع الثاني معرفة الحضريّ والسفريّ) للسفريّ أمثلة.
منها: أول المائدة. أخرج البيهقيّ في (شعب الإيمان) عن أسماء بنت يزيد أنها نزلت بمنى. وأخرج في (الدلائل) عن أم عمرو، عن عمها أنها نزلت في مسير له، وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال: نزلت سورة المائدة في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة.
ومنها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] في الصحيح عن عمر: صفحة رقم 3

أنها نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع، وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ، أنها نزلت يوم غدير خمّ. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة، وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع، وكلاهما لا يصح.
ومنها: آية التيمم فيها. في الصحيح «١» عن عائشة أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة.
ومنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ...
[المائدة: ١١] الآية. نزلت ببطن نخل.
ومنها: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ... [المائدة: ٦٧] نزلت في ذات الرقاع. انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات، عند هذه الآيات.
قال ابن كثير: روى الإمام أحمد «٢» عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء- ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وروى الإمام أحمد «٣» أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، لم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. تفرد به أحمد
وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
أخرجه البخاري في: التيمم، ١- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث ٢٣٠ ونصه: عن عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء.
فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلّا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حين أصبح، على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.
فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنا عليه، فأصبنا العقد تحته. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٦/ ٤٥٥.
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ١٧٦ والحديث رقم ٦٦٤٣.