
ولأنّ ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ والثاني، وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب اللَّه. البرهان والنور المبين: القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وبالنور المبين: ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ في ثواب مستحق وتفضل وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو طريق الإسلام. والمعنى: توفيقهم وتثبيتهم.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
روى أنه آخر ما نزل من الأحكام «١». كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع، فأتاه جابر بن عبد اللَّه فقال: إنّ لي أختا، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ «٢» وقيل: كان مريضا فعاده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إنى كلالة فكيف أصنع في مالى؟ «٣» فنزلت إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر. ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة لا النصب على الحال. أى: إن هلك امرؤ غير ذى ولد. والمراد بالولد الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى لأن الابن يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس، وبالأخت التي هي لأب وأم دون التي لأم، لأنّ اللَّه تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وأما الأخت للأم فلها السدس
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس.
(٣). متفق عليه من رواية ابن المنذر عنه. وأخرجه أصحاب السنن، لكن ليس في رواية أحد منهم فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) إلا عند مسلم، من رواية ابن عيينة عنه بلفظ فنزلت (يَسْتَفْتُونَكَ) - الآية (فائدة) روى النسائي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) - الآية وفي البخاري من رواية الشعبي عن ابن عباس «آخر آية نزلت آية الزنا» وروى الطبري من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبى بن كعب قال: آخر آية نزلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - الآية.

في آية المواريث مسوّى بينها وبين أخيها وَهُوَ يَرِثُها وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أى ابن لأن الأبن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت: الابن لا يسقط الأخ وحده فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفى الولد؟ قلت:
بين حكم انتفاء الولد، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة، وهو قوله عليه السلام «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» «١» والأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد: ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع «٢» في قوله فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ وإن كانوا إخوة؟ قلت: أصله: فان كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً: وإنما قيل: فان كانتا، وإن كانوا، كما قيل: من كانت أمّك. فكما أنت ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه، والمراد بالإخوة. الإخوة لا الأخوات، تغليباً لحكم الذكورة أَنْ تَضِلُّوا مفعول له. ومعناه:
كراهة أن تضلوا. عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثاً، وأعطى من الأجر كمن اشترى محرّراً، وبريء من الشرك وكان في مشيئة اللَّه من الذين يتجاوز عنهم «٣».
(٢). قال محمود: «إن قلت إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع... الخ» ؟ قال أحمد: وقد سبق له هذا التمثيل في مثل هذا الموضع ولو مثل بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أسلم إذ في لفظ «من» من الإبهام ما يسوغ وقوعها على الأصناف المختلفة من مذكر ومؤنث وتثنية وجمع. ومثل الآية سواء قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن جعل الجملة مفعولا ثانياً للحسبان، فان أصل الكلام: هي العدو، إذ الضمير على هذا الاعراب للصيحة، ولكنه ذكره وجمعه لمكان الخبر، واللَّه أعلم.
(٣). تقدم الكلام على أسانيده في آخر سورة آل عمران.