
أسباب إرسال الرّسل ووحدة رسالاتهم
إن أعظم هدية من الله تعالى على بني الإنسانية نعمتان جليلتان: وهما إنزال الكتب الإلهية، وإرسال الرّسل، لإنقاذ الناس من ضلالاتهم، والأخذ بأيديهم وتوجيههم نحو طريق السعادة والنجاة والطمأنينة في عالم الدنيا والآخرة.
ومن البديهي أن تتّحد الكتب ورسالات الرّسل والأنبياء لأن مصدرها واحد، ومهمتها واحدة، ومقاصدها واحدة، وهي إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته، والإرشاد لعبادته الصحيحة المخلصة لله سبحانه، والدعوة إلى أصول الأخلاق الكريمة والفضائل القويمة، وتصحيح المعاملات، وتنمية العلاقات الاجتماعية وجعلها سامية كريمة.
وهذا ما نبّه إليه القرآن المجيد في قول الله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
«١» «٢» [النساء: ٤/ ١٦٣- ١٦٦].
روي عن عبد الله بن عباس: أن سبب هذه الآية (الأولى) أن سكينا الحبر وعديّ بن زيد قالا: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى، ولا أوحى إليه، فنزلت هذه الآية تكذيبا لقولهما.
(٢) كتابا للمواعظ.

وحقيقة الوحي الإلهي: عرفان يجده الشخص من نفسه، مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة. وقد أبانت الآيات أن الإيحاء لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم مثل الإيحاء للأنبياء السابقين، كالمشهورين مثل نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب المسمى إسرائيل، والأسباط (وهم أولاد يعقوب وذريته) وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان، وداود الذي أنزل الله عليه كتاب الزّبور: وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها أحكام، وإنما هي حكم ومواعظ وتمجيد وثناء على الله تعالى.
ومن هؤلاء الرسل المكرمين عند الله تعالى: موسى الذي خصّه الله بتكليمه وشرفه بكلامه مباشرة من غير واسطة، وذلك بكيفية وخواص، الله أعلم بها، فهو كلام دون تكييف ولا تحديد ولا تجويز حدوث ولا حروف ولا أصوات. وكلام الله هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى أو جبريل إدراكا من جهة السمع يتحصل به الكلام، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام المعهود المألوف بين البشر.
والرّسل منهم من أخبر الله نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأسمائهم ومعجزاتهم ومنهم من لم يخبره بشيء عن سيرتهم وزمانهم ومكانهم.
ومهمة الرّسل والأنبياء واحدة هي تبشير من آمن بالله وأطاع بالجنة، وإنذار من كفر وعصى بالنار. والحكمة من إرسالهم إرشاد الناس إلى طريق الحق والإيمان والاستقامة، وأراد الله تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي لآمنت، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء، ولا حجة لأحد عليه، وهو مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة بالغة، يضع الشيء في موضعه المناسب، فلذلك تحقق بهذا الإرسال للرّسل قطع الحجة، وكان إرسال الرّسل حكمة من الله تعالى.
وقوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ.. سببه قول اليهود: (ما أنزل

الله على بشر من شيء) وقال بعضهم لمحمد عليه الصلاة والسلام: ما نعلم يا محمد أن الله أرسل إليك ولا أنزل عليك شيئا، فردّ الله عليهم بقوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. كفى بشهادة الله وشهادة ملائكته على صدق إنزال القرآن على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أنزله الله بعلمه الخاص الذي لا يعلمه سواه، كما قال سبحانه في مطلع سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) [البقرة: ٢/ ٢]. وهو الذي تحدى الله به البشرية أن يأتوا بمثله فعجزوا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) [الإسراء: ١٧/ ٨٨]. وقوله سبحانه: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ دليل قاطع واضح على إثبات علم الله تعالى، فهو يعلم إنزال القرآن ونزوله، وعجيب قول المعتزلة: عالم بلا علم، ومعنى الآية عندهم:
أنزله مقترنا بعلمه، أي فيه علمه من غيبيات وأوامر ونحو ذلك، فالعلم عندهم:
عبارة عن المعلومات التي في القرآن.
ضلال الكافرين وجزاؤهم
ليس في هذا العالم بالنسبة للهدي الإلهي إلا طريقان: طريق الضلال والكفر، وطريق الهداية والإيمان، فمن سلك طريق الضلالة فقد رشده ودمر نفسه، ومن أخذ بطريق الهداية وآمن بما أنزل الله على رسله الكرام، سار في منهج صحيح، وأعمل عقله وفكره السوي، وأنقذ نفسه من أخطر العواقب الوخيمة.
وحرصا من الله تعالى على مصلحة عباده، وحبّا لهم وإرادة لجلب الخير لأنفسهم، أنذر الضّالين المنحرفين بالعذاب الشديد، ودعا إلى الإيمان الصحيح برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين.