
الموصوف بقوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقليل والصغير
في وصفها متقاربان.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)
كما وصف في مراعاة الحدود ثواب مراعيها وصف في
تضييعها عقاب متعديها، وأطلق القول فيهما ليكون عامًّا في
ذلك وفي غيره من الحدود التي بيّنها، وذكر في العذاب الهوان.
كما ذكر في غيره الخزي لما عُرِف من عادة كثير من الناس أن
تقل مبالاتهم بالشدائد ما لم يضامَّها، الهوان حتى قالوا: المَنيَّة
ولا الدنيَّة، والنار ولا العار.
فبيّن أنه يجُمع لهم الأمران.
قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥)

فائدة الإِضافة في قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ) تنبيه على الحرائر.
وقيل: تنبيه على المحصنات دون الأبكار.
وقيل: على المزوجات أبكارًا كن أو ثيِّبات.
قال ابن عباس في هذه الآية، وفي قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) إن الزانيين كانا يُؤذيان بالتعيير والتعزير، والمرأة كانت تُحبس في البيت إلى أن أنزل الله قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
وقيل: المراد بالآيتين البكران.
وقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا):
"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثّيب بالثّيب جلد مائة

والرجم "، وهذا مما استدلّ به من ادّعى جواز نسخ القرآن
بالسنة، ومن أنكر ذلك فله من ذلك أجوبة:
أحدها: أن هذا كان حكمًا مقيدًا بوقت، لقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)، وتقديره: أمسكوهن إلى أن يتبين لكم حكمهن، فصار ذلك
بالكتاب معلومًا، وإنما حظ السنة فيه بيان قدر الزمان، الذي
وقَّته الكتاب مجملًا.
والثاني: أن الأذى كان في الأبكار اللاتي لم يتزوجن.
والحبس في التزوجات منهن قبل الدخول، بدلالة

قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ)، ثم نُسِخَ حكم الحبس والأذى في
الأبكار بآية الجلد، وأما الرجم فقد أُخذ حكمه عن السنة.
ولهذا قال عليّ عليه السلام حيث جلد محصنًا ورجمه، فسُئل عن
ذلك؟ فقال: "أجلده بكتاب الله، وأرجمه بسنة رسوله - ﷺ -، فدلَّ أنه لم يفهم من سنة النبي نسخ الآية.
والثالث: أن حُكم النسخ وقع بقرآن، قد رُفع تلاوته، وبقي حكمه.
وهو ما رُوي عن عمر رضي الله عنه: كان مما يقرأ في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم.
فهذه أقوال عامة المفسرين، وأما ابن بحر فإنه قال: المراد بقوله:
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)، وبقوله:

(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) ما يتعاطى الرجال بعضهم من بعض.
والنساء بعضهن مع بعض، وبقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما يتعاطى الرجل
مع المرأة، قال: ولا نسخ في ذلك، قال: ويدل على ذلك أن
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ) متضمنة للإِناث فقط، (وَاللَّذَانِ) يتضمن
المذكرين، قال: ولا يصحُّ أن يقال: إن الذكر والمؤنث إذا اجتمعا
غلب المذكر، لأن ذلك إنما يكون حيث تقدم لهما ذكر، نحو
قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)
قال: وقد روي عنه - ﷺ -:
"مباشرة الرجل الرجل زنى، ومباشرة المرأة المرأة زنى".
وهذا الذي قاله وإن ساعده اللفظ فعدول عن سنن السلف.