آيات من القرآن الكريم

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ

فيما دون الثلث، لأن حضرة الرسول قال والثلث كثير راجع الآية ١٨٢ من البقرة «وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» (٩) عدلا صوابا لا يحيف المريض به في الوصية ولا يمنعونه عنها بتاتا فيحرمون الفقراء والأقارب من فضله إن كان له مال كثير كما ألمعنا إليه في الآيتين المذكورتين من سورة البقرة، بل يحبذون له الإيصاء للأقربين الفقراء غير الوارثين والعلماء الصالحين والأيتام والأرامل المحتاجين، ليجد ثوابه عند ربه وليستفيد من ماله في الآخرة كما استفاد منه في الدنيا. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» بغير حق فهو ظلم ولهذا هددهم الله بقوله «إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (١٠) نزلت هذه الآية في مرشد بن زيد الغطفاني إذ أكل مال ابن أخيه القاصر. وإنما سماه الله نارا لأنه يفضي لدخولها وهي عامة في كل من يأكل مال اليتيم أو يتصرف به بغير حق فينقصة أو يتلفه. ألا فليحذر الأولياء والأوصياء والقضاة ومدير والأيتام وغيرهم من أن يتسببوا لنقص مال اليتيم فيدخلوا في حكم هذه الآية، أجارنا الله تعالى ووقانا وحفظنا وحمانا.
قال تعالى مبينا أيضا الوارثين جل بيانه «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» بصورة مطّردة في العصبات «فَإِنْ كُنَّ» الوارثات كلهن «نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ» للمورث يقسم بينهن بالسوية والباقي للعصبة فإذا لم يكن هناك عصبة يأخذن الباقي بطريق الردّ على السوية أيضا «وَإِنْ كانَتْ» الوارثة أنثى «واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» فرضا والباقي ردا عند عدم العصبة وإلا فهو لعصبة الميت «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ» إن كانا أحياء، وهذا «إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» فإذا لم يكن له ولد فالمال كله لهما «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ» فقط «فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» والباقي للأب «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» والباقي للأب، أما إذا لم يكن له أبو لا جد فيأخذون خمسة أسداس المال يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وتأخذ الأم السدس فقط وذلك كله «مِنْ بَعْدِ» أداء «وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها» من قبل الميت «أَوْ دَيْنٍ» كان عليه ثابت في ذمته، لأن الميت يتعلق بميراثه أربعة حقوق، تجهيزه

صفحة رقم 525

وتكفينه ودفنه وإيفاء ديونه وتنفيذ وصاياه، فيبدأ أولا بتجهيزه، ثم إيفاء ديونه ثم تنفيذ وصاياه، وما بقي يقسم بين الورثة حسبما أمر الله، ولا تعترضوا أيها الناس على زيادة النصيب ونقصه فهو الموافق لمصلحتكم إذا أجلتم النظر وتدبرتم العاقبة.
هذا من جهة ومن أخرى فالأمر أمر الله ولا معقب لأمره «آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ» في حق الإرث لهم أنصباء معلومة مقدرة عند الله، وأنتم «لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» لتخصوه بزيادة ولا أكثر ضرا لتحرموه من الميراث فكم من أنثى أحسن من ذكور، وكم من بعيد خير من قريب، ولكن الله يعلم ذلك وقضت كلمته أن يكون تقسيمه الإرث على ذلك وكان هذا «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» لا محل للاعتراض عليها «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولم يزل «عَلِيماً حَكِيماً» (١١) فيما فرض وحكم وقسم «وَلَكُمْ» أيها الأزواج «نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ» هذا «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ» والولد هنا يشمل الذكر والأنثى والواحد والمتعدّد، فإن كان واحدا ذكرا أخذ المال كله من فرض الأب والأم فرضا إذا كانا حيين لأنهما أصحاب فروض لا ينقطعون بعد بحال من الأحوال ولا يحرمون بتاتا من الإرث، بل قد يحجبان حجب نقصان في بعض الأحوال المعلومة في كتب الفرائض، ولنا رسالة مسماة أصح القول في الردّ والعول فيها كفاية لمن يراجعها، وإن كان اثنان فأكثر اقتسموه بينهم على السواء. وإن كانت أنثى أخذت النصف فرضا والباقي ردا، إذا لم يكن هناك عصبة كما تقدم، وإن كن أكثر أخذن الثلثين والباقي للعصبة، وإن كانوا ذكورا وإناثا اقتسموه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين «وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً» أي لا ولد له ولا والد ولا حفيد ولا جد. والوارث الذي ليس بولد ولا والد يسمى كلالة «أَوِ امْرَأَةٌ» تورث كلالة «وَلَهُ» لهذا الميت رجل كان أو امرأة «أَخٌ أَوْ أُخْتٌ» لأم «فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ

صفحة رقم 526

فَإِنْ كانُوا»
الإخوة لأم «أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ» ثلاثة فما فوق «فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ذكورهم وإناثهم على السواء لأن الشركة تقتضي التسوية وما يفضل يعطى للعصبة المبين تفصيلهم ومقدار إرثهم في علم الفرائض، وهذا أيضا يعطى لهم «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها» من قبل الميت ذكرا كان أو أنثى «أَوْ دَيْنٍ» وقد كررت هذه الجملة أربع مرات بحسب اختلاف الموصيين، ولهذا لا يعد تكرارا إذ لا بدّ منها لئلا يتوهم عدم القيام بالوصية أو الدين في بعض الأحوال فيظن أن حكمها غير جار في الآية المتروكة منها، مع أن إيفاء الوصية وأداء الدين مقدم على الإرث في كل الأحوال، ويجب على الموصي أن يكون بوصية «غَيْرَ مُضَارٍّ» بورثته بان يوصي بأكثر من الثلث أو يخصص وارثا بغير ما يخص به الآخر زيادة على فرضه أو يحرم وارثا، وذلك بأن يقسم تركته حال مرضه عليهم، لأن هذا كله من الإضرار المنهي عنه شرعا الموجبة للعقوق وحنق بعض الورثة على بعض، لأن الأمر بهذا التقسيم وعدم الإضرار كله صادر «وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ» لعباده ليتقيدوا فيها ويعملوا بأحكامها وليحافظوها «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنياتكم فيحذركم من أن تتضارّوا وخاصة في آخر رمق من حياتكم لأنكم أحوج ما تكونون إلى الوفاق فيه بأن تتركوا ورثتكم منآلفين وأنتم بوقت ترجون فيه الدعاء والرضاء ورجاء فضل الله فتعملوا ما يغضبه وتقعوا بالإثم الذي أوله مخالفة الله وآخره الخلاف بين ورثتكم بما يعود عليكم بالسبّ والشتم، ونتيجته عذاب الله في الآخرة والله «حَلِيمٌ» (١٢) لا يعجل عقابه وإلا لأنزل البلاء حالا بمن يخالف وصاياه.
تشير هذه الآية إلى استدراك ما هفا به المريض قبل موته ليرجع عما فعله من الحيف بذلك لئلا يستحق وعيد الله، ولعله ينال وعده، ولذلك يسن لمن يعود المريض وقد علم بما وقع منه من المخالفة في الوصية أو غيرها أن يرشده إلى ما به رضاء الله ورضاء خلقه، ويحذّره عاقبة الأمر، راجع ما بيناه في الآية ١٨٢ من البقرة «تِلْكَ» الأحكام المذكورة في الإرث والوصايا واليتامى هي «حُدُودُ اللَّهِ» التي يجب عليكم الوقوف عندها فلا تعتدوها أيها الناس، وأطيعوا الله فيما يأمركم وينهاكم وأبقوا ورثتكم متآخين، وارجوا دعاءهم لكم بالخير، «وَمَنْ يُطِعِ

صفحة رقم 527

اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
(١٣) ولا أعظم فوزا من الخلود في الجنة أبدا فتحصلوا على رضاء الله أيها الناس، وإياكم أن تعصوه «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ» التي بينها في الإرث وغيره «يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» (١٤) لا تطيقه قواه مع الخزي والعار. هذا، وإن حضرة الرسول ينتظر أمر الله في بيان نصيب كل من ورثة أوس بن ثابت المار ذكره في الآية ٧ وكان سعد بن الربيع استشهد بأحد وترك بنين وامرأتين وأمّا، وكانت زوجته راجعت حضرة الرسول أيضا بأن عما أخذ مالها ولم يدع لها شيئا، وكان قال لها ليقض الله في ذلك كما رواه البخاري ومسلم عن جابر، فأنزل الله هذه الآيات المبينة ما سألتا عنه فاستدعاهما وأعطى كلا منهم نصيبه حسبما أمر الله. أما من ليس له فرض في كتاب الله فيدخل في قوله صلّى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن ابن عباس ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأدنى رجل ذكر. وهذا ما يسمونه تعصيبا في علم الفرائض الواجب وتعلمه وجوبا كفائيا، لأنه من أعظم العلوم قدرا وأشرفها ذخرا وأفضلها ذكرا لأن الله تعالى تولى بيان تقسيمها بنفسه جلت ذاته وعظمته، أخرج بن ماجة والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه (أي علم الفرائض) نصف العلم وهو أول علم ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي. وكان من برع في هذا العلم زمن الرسول زيد بن ثابت، وبعده ابن مسعود وقال صلّى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه رضوان الله عليهم أفرضكم زيد. وكان سئل أبو موسى عن بنت وبنت ابن وأخت فأفتى بالنصف للبنت والنصف للأخت وأمر السائل ان يسأل ابن مسعود، فسأله فأعطى للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأخت ما بقي، فعرضوه على أبي موسى فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم تنويها بفضله ومن هنا أخذت قاعدة اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة، هذا وبعد أن بين الله تعالى لزوم الإحسان إلى النساء وإمساكهن بالجميل أو تسريحن بإحسان فيما تقدم من الآيات في سورة البقرة في الآية ٢٤١ فما قبلها وفي أوائل هذه

صفحة رقم 528

السورة ضم إلى ذلك لزوم التغليظ عليهن ليجتنين ما يدنس كرامتهن وليحافظن على شرفهن، فهو من جملة الإحسان إليهن بحسب العاقبة.
مطلب حد الزنى واللواطة. وأصول التشريع. والمراد بالنسخ. وإيمان اليأس والتوبة:
فقال جل قوله «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» سواء كن زوجات أو غيرهن على الإطلاق «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون كلهم رجال لا من غيركم ولا من النساء، لأن هذا من الأمور الهامة فلا يؤتمن أبدا عليها غيركم بخلاف بعض الحقوق التي تجوز فيها الشهادة من غيركم بما فيهم النساء، كما سنبينه في الآية ١١٠ من سورة المائدة الآتية، وقد مرّ لها بحث في الآية ٢٨١ من سورة البقرة فراجعه «فَإِنْ شَهِدُوا» شهادة لا غبار عليها أربعتهم أمام الإمام والقاضي بأنهن فعلن الفاحشة عيانا «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» إحبسوهن فيها جزاء لإقدامهن على تلك الفعلة القبيحة حالا لئلا يكررنه وان تبقوهن محبوسات «حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ» فتخلصوا منهن «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» (١٥) طريقا آخر فينزل فيهن حكما آخر قبل أن يمتن، وهذا كان موجودا في الجاهلية وفي بداية الإسلام واستمر حتى أنزل الله بيان السبيل الذي ذكره هنا في سورة النور الآتية، وهذا يعد من المجمل الذي يحتاج إلى البيان فلا تعد هذه الآية منسوخة كما قاله بعض المفسرين بالحديث الذي رواه مسلم عن عبادة بن الصامت من أنه كان نبي الله إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك، وتريد وجهه، فأنزل الله عليه ذات يوم، فبقي كذلك، فلما سرّى عنه قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرّجم. فإن هذا هو السبيل المجمل الذي بينه صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث فصار بيانا للآية، لا ناسخا، لأن الحديث لا ينسخ القرآن كما بيناه في تفسير الآيتين ١٠٧ و ١٨٠ من سورة البقرة المارة فراجعها، وسيأتي زيادة تفصيل في تفسير أول آية من سورة النور المذكورة إن شاء الله تعالى. ويعلم من هذا أن أمر الله بالإحسان إلى النساء لا يكون سببا لترك إقامة الحد عليهن، لأنه يسبب إيقاعهن ت (٣٤)

صفحة رقم 529

بالمفاسد، فكان إقامة الحد عليهن حكما قاطعا لذلك، روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة- لفظ البخاري- ولمسلم: ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين. قال تعالى «وَالَّذانِ» أي الفريقان، المحصنون وغير المحصنين وقيل إنهما اللائط والملوط به ولا شك أن اللواطة أفحش من الزنا لخروج الآتي والمأتى فيه عن مقتضى الحد الإلهي، وانحطاطهما عن رتبة الكمال الإنساني مما يخالف المروءة ويسقط العدالة. وهذان الناقصان اللذان «يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» أيها الرجال «فَآذُوهُما» أيها الحكام وحقروهما وعيّروهما وأنبوهما أيها الناس على فعل هذه الفاحشة الشنيعة ولا تقيسونها على النساء فتحبسونها، لأن الحبس يمنعهما عن القيام بمعاشهما ومن تلزمهما نفقته لذلك جعل الله عقوبتهما الأذى أي الضرب بالنعال والتقريع والتوبيخ، أما النساء فلا صالح لهن بالخروج، لذلك جعل جزائهن الحبس إلى أن يتوبا «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» بسبب خضوعهما وإنابتهما بعد ذلك الضرب والتأنيب «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولا يزال «تَوَّاباً» على من يتوب وينيب إليه «رَحِيماً» (١٦) بمن يرجع إليه حكيما فيما يشرع لعباده، وهذا أيضا كان أول الإسلام واستمر إلى أن نزلت آية الحد أول سورة النور الآتية، لأن الله تعالى جعل تشريعه لهذه الأمة تدريجا، والتدريج هو الأصل الثالث من أسس التشريع التي اعتبرها الفقهاء من أصول الدين التي أشرنا إليها في بحث التدريج للأحكام في المقدمة فراجعه، ولهذا سوغ الأخذ بالرخصة كقصر الصلاة وفطر الصائم واليتيم وإباحة المحرّم عند الضرورة بقدر الحاجة والنطق بكلمة الكفر عند خوف القتل مع اطمئنان القلب وجواز شرب الخمر بالإكراه وما أشبه ذلك كما نبهنا عنه في الآية ١٠٧ من سورة النحل في ج ٢. والأصل الثاني تقليل التكاليف، وهو

صفحة رقم 530

نتيجة لازمة لعدم الحرج، لأن كثرتها إحراج على الأمة، وإنما كان التشريع تدريجيا ليتم كمال دينه الذي ارتضاه شيئا فشيئا، لأنه لو تعبدهم بكل ما أمرهم ونهاهم دفعة واحدة لصعب الأمر عليهم وشق الانقياد
إليه والامتثال له، ولما تلقاه بالقبول إلا القليل منهم، فإذا تأملت هذا جزمت بأن ما أنزل آخرا غير مبطل لما نزل أولا بالمعنى المراد في النسخ، ولظهر لك سرّا هذا من أنهم لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر المستحكمين فيهم والذين كانا دأبهم ليل نهار وديدنهم صباح مساء كالشاي والقهوة في زماننا أجابهم بما لم يصرح فيه على الكف عنهما بتاتا كما مر تفصيله في المقدمة. ولتمام بحثه صلة في سورة المائدة الآتية إن شاء الله، فعلى هذا الأصل وأصل الإجمال بعد التفصيل الذي نحن بصدده تعلم أن لا نسخ في كتاب الله بالمعنى الذي يريده علماء الناسخ والمنسوخ، لأنك لو تدبّرت الآيات المكية لوجدتها كلها مجملة وقل ما هو مفصّل فيها، لأن جلها مما يحمي العقيدة، ولو تأملت الآيات المدنيات لوجدت غالبها مفصلا مبينا لذلك المجمل، ولا سيما ما هو خاص بالمعاملات المدنية وهذا من خصائص ومميزات المدني عن المكي التي ذكرناها في بحث خاص في المقدمة أيضا فراجعها. قال تعالى «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» أي مقبولة لديه بمحض الفضل لا الوجوب «لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» إذ لا يعصي الإله إلا الجاهل السفيه لعدم استعمالهما معه من العقل المميّز الخير من الشر والعلم المبني عن عقاب الله على المعصية وثوابه على الطاعة «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» على أثر الإقلاع من فعله فيتبعه الندم حالا والاستغفار منه والإنابة إلى الله «فَأُولئِكَ» الذين هذا شأنهم النادمين على فعل السيء الراجعين إلى الله «يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» إذا تابوا قبل حضور الموت ومعاينة أسبابه، لأن عمر الإنسان كله قليل قريب من الموت، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. أي حتى يتردد الماء في حلقه فلا يستطيع إساغته من سكرات الموت «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بما يقع من الندم من عباده فيمهلهم ليتوبوا فيقبل توبتهم المدون في علمه الأزلي قبولها «حَكِيماً» (١٧) بعدم تعجيل العذاب لأمثالهم لعلمه برجوعهم إليه ونظير هذه الآية الآية ١١٩ من سورة النحل في ج ٢. روى

صفحة رقم 531

البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. قال تعالى مبينا القسم الأول من الذين لا توبة لهم بقوله عز قوله «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وصار ينزع بروحه لأنه وقت يأس وانقطاع الأمل من الحياة، وفي هذه الحالة لا ينفع الايمان وإلا لقبل إيمان فرعون، وإن الذي لا تقبل توبته هو الذي لا تخطر بباله إلا في آخر رمق من حياته عند إشرافه على الموت ومعاينة أسبابه «قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» عند بلوغه تلك الحالة التي تحقق عدم الحياة بعدها. قال تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) الآية الاخيرة من سورة المؤمن في ج ٢ وإلا لما بقي كافر على وجه الأرض راجع الآية ١٥٨ من الانعام في ج ٢ تجد ما يتعلق في هذا البحث بصورة مفصلة ثم بين القسم الثاني فقال (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) إذ لم يبق أمامهم بعد الموت إلا الآخرة ولا تقبل التوبة فيها لأنها ليست بدار تكليف وإلا لما دخل النّار كافر «أُولئِكَ» الذين أهملوا أنفسهم ولم يتوبوا في حالة تقبل فيها توبتهم قد خسروا الدنيا و «أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (١٨) في الآخرة والمراد بالسيئات هنا الشرك الجامع لكل سوء. قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية الآتية وهي مكررة هنا، فقد أطلق تعالى فيها عدم المغفرة للمشركين ووعد بغفران ما دون الشرك، فيكون المؤمن الذي أهمل توبته عما اقترف من المعاصي باقيا تحت المشيئة، قال في الجوهرة:
ومن يمت ولم يتب من ذنبه... فأمره مفوض لربه
قال سعيد بن جبير نزلت الآية الاولى في المؤمنين وصدر الثانية في المنافقين وآخرها في الكافرين ومن أراد أن يشمل هذه الآية للمؤمنين قال إنها منسوخة بآية (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية المارة آنفا، ونحن نتحاشى ذلك والمعنى يأباه، والتنزيل ينافيه، ونقول ما قاله سعيد ابن جبير الذي قال فيه الحجاج بعد موته على ما قيل إنه رئي بالمنام فقال إن الله قتله بقتل كل قتيل قتلة قتلة وبسعيد بن جبير سبعين

صفحة رقم 532

قتلة، وذلك لأنه رحمه الله أعلم أهل زمانه، وعليه فلا نسخ في الآية بل هي محكمة باق حكمها إلى الأبد حسبما قال.
مطلب حرمة عد النساء ميراثا وحومة استرداد المهر منهن والأمر بحسن معاشرتهن. والرجوع للحق فضيلة:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» بأن تتزوجوهن من غير رغبة بهن أو بغير رغبتهن بكم بداعي أنكم قد ورثتموهن وهن ليس بميراث «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ» تمنعوهن من الزواج لمن يرغبن بهم ويرغب فيهن «لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» ظاهرة «وَعاشِرُوهُنَّ» إذا تزوجتموهن برضائهن وكن ممن يحل لكم الزواج بهن «بِالْمَعْرُوفِ» كما يطلب منهن ذلك أيضا فضلا عن الطاعة والإخبات «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ» وآثرتم فراقهن على البقاء في عصمتكم وكرهتموهن قبل أن تبنوا بهن فالأجدر بكم أن تبقوهن عندكم «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً» في حال من الأحوال «وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (١٩) بأن يبدل تلك الكراهية محبة أو اتركوهن فقد يكون في تركهن الخير لكم، ولكن سياق الآية يرمي إلى الحث على عدم الفراق حال الكراهة كما ذكرناه، قال صلّى الله عليه وسلم أبغض الحلال إلى الله الطلاق. إذ قد يرزق الله منها ولدا صالحا فيكون فيه الخير وإذا أمسكها على سوء خلقها فيكون له الثواب الجزيل عند الله في الآخرة ويستحق الثناء من الناس في الدنيا. كان أهل المدينة أوائل الإسلام على عاداتهم الجاهلية إذا مات الرجل منهم ورث زوجته قريبه، فإن شاء تزوجها بغير صداق على صداقها الأول الذي أخذته من قريبه المتوفى، وإن شاء منعها من الزواج حتى تفدي نفسها بإعادة الصداق الذي أخذته قبلا أو تموت فيرثها، وهذه العادة الجاهلية لها بقية الآن في أعراب البادية وبعض القرى، وإن كانت القرابة عصبية كبنت العم فلها بقية أيضا في عرب الأرياف، فأنزل الله هذه الآية مبينا فيها عدم حل إرث النساء وعدم جواز منعهن من الزواج إذ لم يكنّ مالا حتى يصرن ميراثا، ولأن ما قبضته من المهر الأول لا حق لاحد به. أما جواز حبسها في حالة الزنى من قبل

صفحة رقم 533
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية