
لَكُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَيْلِ الْقَلْبِيِّ لَمَّا كَانَ خَارِجًا عَنِ الْوُسْعِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَاجَةٌ إِلَى الْمَغْفِرَةِ.
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٠]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ جَوَازَ الصُّلْحِ إِنْ أَرَادَا ذَلِكَ، فَإِنْ رَغِبَا فِي الْمُفَارَقَةِ فاللَّه سُبْحَانَهُ بَيَّنَ جَوَازَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَوَعَدَ لَهُمَا أَنْ يُغْنِيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَوْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُغْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِنْ زَوْجِهِ الْأَوَّلِ، وَيَعِيشُ أَهْنَأَ مِنْ عَيْشِهِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ قَالَ: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ يُغْنِيهِ مِنْ/ سَعَتِهِ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ وَاسِعًا، وَإِنَّمَا جَازَ وَصْفُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الرِّزْقِ، وَاسِعُ الْفَضْلِ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، وَاسِعُ الْقُدْرَةِ، وَاسِعُ الْعِلْمِ، فَلَوْ ذَكَرَ تعالى أنه واسع في كذا لا ختص ذَلِكَ بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَاسِعَ وَمَا أَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاسِعٌ فِي جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَإِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَلَزِمَ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ وَاسِعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْفَضْلِ وَالْجُودِ، وَالْكَرَمِ. وَقَوْلُهُ حَكِيماً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ وَوَعَظَ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُرِيدُ فِيمَا حَكَمَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ إِمْسَاكِهَا بمعروف أو تسريح بإحسان.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
وَفِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُغْنِي كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ، وَأَنَّهُ وَاسِعٌ أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِكَوْنِهِ وَاسِعًا فَقَالَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَعْنِي/ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْجُودِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لاحتياجه إلى أعمال العباد، لأن مالك السموات وَالْأَرْضِ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى عَمَلِ الْإِنْسَانِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُصُورِ، بَلْ إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا رِعَايَةً لِمَا هُوَ الْأَحْسَنُ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَقْوَى اللَّه شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ لَمْ يَلْحَقْهَا نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ، بَلْ هُوَ وَصِيَّةُ اللَّه فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ مِنْ قَبْلِكُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَصَّيْنَا، يَعْنِي وَلَقَدْ وَصَّيْنَا مَنْ قَبْلَكُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُوتُوا، يَعْنِي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَصَّيْنَاهُمْ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ وَإِيَّاكُمْ بِالْعَطْفِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْكِتَابُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ كَقَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ أَوْصَيْتُكَ أَنِ افْعَلْ كَذَا وَأَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَيُقَالُ: أَلَمْ آمُرْكَ أَنِ ائْتِ زَيْدًا، وَأَنْ تَأْتِيَ زَيْدًا، قَالَ تَعَالَى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الْأَنْعَامِ: ١٤] وَقَالَ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [النَّمْلِ: ٩١].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً قَوْلُهُ وَإِنْ تَكْفُرُوا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ اتَّقُوا اللَّهَ وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَاهُمْ وَأَمَرْنَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَقُلْنَا لَهُمْ وَلَكُمْ: إِنْ تَكْفُرُوا فإن للَّه ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ كُلِّهَا، فَحَقُّ كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَكُونَ مُنْقَادًا لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَرْجُو ثَوَابَهُ وَيَخَافُ عِقَابَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّكُمْ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للَّه مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَمَا فِي أَرْضِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَيَتَّقِيهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَمُسْتَحِقًّا لِأَنْ يُحْمَدَ لِكَثْرَةِ نِعَمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي ذَاتِهِ مَحْمُودٌ سَوَاءٌ حَمِدُوهُ أَوْ لَمْ يَحْمَدُوهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ قَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِتَقْرِيرِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: ١٣٠] وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنُهُ تَعَالَى جَوَادًا مُتَفَضِّلًا، فَذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْغَرَضُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ وَاسِعَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَثَانِيهَا: / قَالَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ طَاعَاتِ الْمُطِيعِينَ وَعَنْ ذُنُوبِ الْمُذْنِبِينَ، فَلَا يَزْدَادُ جَلَالُهُ بِالطَّاعَاتِ، وَلَا يَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، فَذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ كَوْنِهِ غَنِيًّا لِذَاتِهِ عَنِ الْكُلِّ، وَثَالِثُهَا: قَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِيجَادِ، فَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعْدَامِكُمْ وَإِفْنَائِكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يُوجِدَ قَوْمًا آخَرِينَ يَشْتَغِلُونَ بِعُبُودِيَّتِهِ وتعظيمه، فالغرض هاهنا تَقْدِيرُ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، وَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ دَلِيلًا عَلَى مَدْلُولَاتٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ ذِكْرُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْمَدْلُولَاتِ، ثُمَّ يَذْكُرُهُ مَرَّةً أُخْرَى لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الثَّانِي، ثُمَّ يَذْكُرُهُ ثَالِثًا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمَدْلُولِ الثَّالِثِ، وَهَذِهِ الْإِعَادَةُ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ عِنْدَ إِعَادَةِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ يَخْطُرُ فِي الذِّهْنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَدْلُولِ، فَكَانَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْمَدْلُولِ أَقْوَى وَأَجْلَى، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْرِيرَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا أَعَدْتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّعْتَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِثْبَاتَ صِفَةٍ أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ جَلَالِ اللَّه تَنَبَّهَ الذهن حينئذ