
وفي الآية توكيد لما احتوته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها من اعتراف المشركين في قرارة نفوسهم بالله وبأنه هو وحده كاشف الضرّ والسوء ومن عادتهم في اللجوء إليه وحده حينما يحدق بهم خطر أو يلم بهم ضرر. وفي ذلك توكيد حاسم آخر بأن الله لا يقبل من عباده إلّا أن يكون اتجاههم إليه وحده في كل ظرف وبأن غير ذلك هو شرك وكفر.
وفي الآية تلقين مستمر المدى في صدد من لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينساه وينحرف عن جادة الحق والتقوى في وقت الرخاء وما في ذلك من قبح وبشاعة وإثم عند الله.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
. (١) قانت: خاضع أو خاشع أو طائع.
في الآية تساؤل عما إذا لم يكن الأفضل هو الخاضع لله وحده العابد له، آناء الليل وأطراف النهار، والذاكر له وقت الشدة والرخاء معا، يحسب حساب الآخرة وأهوالها، ويرجو من ربّه أن يشمله برحمته. وأمر رباني للنبي ﷺ بالتساؤل ثانية عما إذا كان يصح أن يسوّى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون أو أن يكون الفريقان في مقام واحد. وتقرير بأن أرباب العقول الراجحة السليمة هم فقط الذين يتذكرون ويدركون حقائق الأمور.
ولقد روى البغوي عن عطاء أن الآية نزلت في أبي بكر، وعن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر، وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان، وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله عنهم جميعا «١». وليس ذلك واردا

في مساند الصحاح وأسلوب الآية عام مطلق وبينه وبين أسلوب الآية السابقة تناظر. فالموضوع في كلتيهما مطلق عام. وفي كلتيهما أمر للنبي ﷺ بالاستنكار وإعلان الحقيقة الواجب إدراكها. وهذا ما يسوغ القول إن هذه الآية متصلة أولا بالآية السابقة وإن كلتيهما متصلتان بالسياق وقد جاءتا على سبيل الاستطراد والتنبيه. ولا نريد بما قلناه أن ننفي خبر استغراق بعض أصحاب رسول الله ﷺ الأولين في التهجد بالليل بنوع خاص واشتهار ذلك بحيث جعلتهم حكمة التنزيل مناسبة للمفاضلة بينهم وبين أشخاص بطرين مستكبرين من الكفار.
والمتبادر أن التساؤل الأول على سبيل المقايسة بين المؤمن الصالح والكافر المشرك الذي أشارت إليه الآية السابقة والذي لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينحرف عن سبيله وقت الرخاء. وأن التساؤل الثاني تعقيب على الأول وبسبيل التنويه بالفريق الصالح الذي هو وحده يدرك ويعلم والتنديد بالفريق المنحرف بسبب عدم فهمه وعلمه. وواضح أن الشطر الثاني من الآية ينطوي على التقرير الإيجابي بأفضلية المؤمن الصالح على المشرك المنحرف الضال بقطع النظر عن المركز الاجتماعي لكل منهما. واستنكار التسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وفي هذا- وبخاصة في تقرير أفضلية المؤمن الصالح- تلقين جليل مستمر المدى.
تعليق على جملة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
ومع أنه قد يكون المقصود القريب من هذه الجملة المؤمنين والكافرين حيث أدرك الأولون وعلموا حقائق الأمور فاتبعوا طريق الهدى وعميت أبصار الآخرين عن ذلك فإن في إطلاق عبارتها مسوغا للقول إنها تتناول كل ما يصح أن يكون موضوع مقايسة بين أمرين أو بين رجلين أو بين جماعتين أحدهما يدعم رأيه أو موقفه بالحجة الواضحة ويستند فيه إلى علم وتفكير والثاني مهوش مضلل لا يعي الحقيقة ولا يدرك موضع الحق ولا يستند في موقفه إلى علم وبينة. ولهذا فإن الجزء الرابع من التفسير الحديث ٢٠