
تناقض الكفار واستقامة المؤمنين
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٨ الى ٩]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
الإعراب:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أَمَّنْ بالتشديد: بإدخال «أم» بمعنى بل والهمزة على «من» بمعنى الذي، وليس بمعنى الاستفهام، لأن «أم» للاستفهام، فلا يدخل على ما هو استفهام. وفي الكلام محذوف تقديره: العاصون ربهم خير أم من هو قانت، ودخل على هذا المحذوف أيضا: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. وقرئ بالتخفيف على أن تكون الهمزة للاستفهام بمعنى التنبيه، ويكون في الكلام محذوف تقديره: أمن هو قانت يفعل كذا كمن هو على خلاف ذلك.
ودخل على هذا المحذوف: قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي.. أو أن تكون الهمزة للنداء، وتقديره: يا من هو قانت أبشر فإنك من أهل الجنة، لأن ما قبله يدل عليه، وهو قوله تعالى: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ. ويَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ في موضع الحال، أو الاستئناف للتعليل.
البلاغة:
يَرْجُوا يَحْذَرُ بينهما طباق.
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أمر أريد به التهديد، مثل اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام ٦/ ١٣٥ ومواضع أخرى].
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إيجاز بالحذف، أي كمن هو كافر.

المفردات اللغوية:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي الكافر ضُرٌّ شدة دَعا رَبَّهُ تضرع مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه خَوَّلَهُ نِعْمَةً أعطاه إنعاما وملكه نَسِيَ ترك الضر ما كانَ يَدْعُوا الذي يتضرع إلى كشفه إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وهو الله، من قبل النعمة أَنْداداً شركاء، جمع ندّ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ عن سبيل دين الإسلام، وقرئ ليضل وكل من الضلال والإضلال نتيجة، وليسا غرضين.
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا بقية أجلك، وهو أمر تهديد، فيه إشعار بأن الكفر نوع تشهي لا سند له، وإقناط للكافر من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ هذا استئناف على سبيل المبالغة.
قانِتٌ طائع خاشع آناءَ اللَّيْلِ ساعاته وَقائِماً للصلاة يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يخاف عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي جنته، وفي الكلام محذوف تقديره: كمن هو عاص بالكفر أو غيره قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ نفي لاستواء الفريقين، أي لا يستويان، وكما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون يَتَذَكَّرُ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
سبب النزول: نزول الآية (٩) :
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ؟: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ الآية، قال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة.
المناسبة:
بعد بيان فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنه لا دليل لهم على عبادتها، وبيان أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، وأن الله غني عما سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر الله تعالى هنا تناقض الكفار بالرجوع إلى

الله وقت الشدة، وتركه وقت الرخاء. ثم أردفه ببيان مدى صلابة المؤمنين في دينهم، وتمسكهم بمبدئهم، فهم لا يرجعون إلا إلى الله، ولا يعتمدون إلا على فضل الله.
التفسير والبيان:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ، نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ هذا موقف متناقض من الكفار، فإذا أصاب الكافر شدة من مرض أو فقر أو خوف، تضرع إلى ربه، راجعا إليه تائبا، مستغيثا به في تفريج كربته، وكشف ما نزل به، ثم إذا منحه نعمة أو أعطاه وملكه، وصار في حال رخاء ورفاهية، نسي ذلك الدعاء والتضرع، أو نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل.
وجعل لله شركاء من الأصنام أو غيرها، يعبدها، ليصير وتكون نتيجته وعاقبته الضلال والإضلال، يضل بنفسه، ويضل الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله والدخول في الإسلام، فسبيل الله: الإسلام والتوحيد، والأنداد الأوثان والأصنام، ولام لِيُضِلَّ لام العاقبة.
والمعنى الأول (وهو أنه عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله) مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء ١٧/ ٦٧].
والمعنى الثاني (وهو أنه في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع) مثل قوله تعالى:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس ١٠/ ١٢].

والمعنى الثالث (جعل الأنداد الشركاء لله) كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات ١٠٠/ ٦].
لكل هذا هدد الله وأوعد ذلك الكافر المتناقض على ما فعل، فقال:
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ قل أيها الرسول لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه: استمتع أيها الإنسان بكفرك تمتعا قليلا أو زمانا قليلا هو مدة أجلك، فمتاع الدنيا قليل، فإنك في الآخرة من أصحاب النار الخالدين فيها أبدا، ومصيرك إليها عن قريب، كقوله تعالى: قُلْ: تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم ١٤/ ٣٠] وقوله سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
ثم ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون دائما إلا على ربهم، فقال:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا، أم المؤمن بالله، الذي هو مطيع خاشع يصلي الله في ساعات الليل، وخشوعه مستمر حال سجوده وحال قيامه، يخاف الآخرة، ويرجو رحمة ربه، فيجمع بين الخوف والرجاء، وتلك هي العبادة الكاملة، التي يفوز بها صاحبها؟! الجواب واضح. قال أبو حيان: وفي الآية دليل على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار.
قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هل يستوي العلماء والجهال؟ إنما يتعظ بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة، لا الجهلاء، وإنما يعرف الفرق بين الصنفين العاقل، لا الجاهل.
لا يستوي الفريقان، فإن العالم الذي يدرك الحق ويعرف منهج

الاستقامة، فيتبعه ويعمل به، لا يستوي أبدا مع الجاهل الذي يخبط خبط عشواء، ويسير في متاهة وضلال.
والمراد بالإتيان بهذه الآية لنفي استواء الفريقين بطريق الاستفهام: هو تأكيد نفي المساواة بين الفريقين الأولين: الكافر المتناقض والمؤمن المطيع الخاشع، فكما أنه لا يستوي العالم والجاهل، لا يستوي المؤمن والمشرك الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيل الله، الأول في قمة الخير والعلم، والآخر في أسفل دركات الشر والجهل.
قال أبو حيان: دلت الآية على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين: العلم والعمل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله، ونجاة العبد من سخطه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى وجود موقفين متعارضين بين الناس، فريق الكافرين وفريق المؤمنين.
أما الكافر: فهو متناقض، تراه يستغيث بالله راجعا إليه مخبتا مطيعا له إذا أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف، لإزالة تلك الشدة عنه، فإن سلم ونجا وعوفي، وصار في حال اطمئنان واستقرار ورخاء ورفاهية، بفضل من الله وحده، نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه.
ولا يقتصر أمره على مجرد النسيان والهجر أو الترك، وإنما يتجاوز ذلك إلى اعتقاد الشرك بالله، واتخاذ الأوثان والأصنام شركاء لله.

بل لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه، بل يضل غيره بفعله أو قوله، ويدعوه إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثما على إثمه.
لهذا حق أن يوجّه له التهديد الشديد والوعيد الأكيد بأن يتمتع بكفره زمنا قليلا، فإن مصيره في النهاية إلى النار.
وأما المؤمن: فهو سوي غير متناقض، مستقيم غير مضطرب، صلب في دينه غير متزعزع، يثبت في جميع أحواله على حال واحدة، من الإيمان الراسخ بالله، والاستقامة على أمر الله، فهو إذن ليس كالكافر الذي مضى ذكره.
تراه مصليا خاشعا لربه في جنح الظلام، والناس نيام، يناجي ربه، جامعا بين الخوف والرجاء.
ثم أكد الله تعالى وجه الفرق بين المؤمن والكافر بالمقارنة بين العالم والجاهل، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. ثم إن الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فهو بمنزلة من لم يعلم، وفي هذا إشارة إلى أن الكافر أو المشرك أو العاصي جاهل وإن كان عالما بعلوم الدنيا، فإنما يتذكر ويعتبر ويتعظ بهذه المقارنات أصحاب العقول من المؤمنين.
ويلاحظ الترتيب في تعداد أوصاف المؤمن، بدأ فيها بذكر العمل في وصفه بكونه قانتا ساجدا قائما، ثم ختمها بذكر العلم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في العمل والعلم، فالعمل هو البداية، والعلم هو النهاية.
ثم إنه تعالى نبّه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل بالمواظبة عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما دائما بما يجب عليه من الطاعات.