
وإذا لم يفعل ذلك فيقول له لماذا حكمت عليّ وبماذا أثبت التهمة الملصقة بي؟ ولو كان في الحقيقة فاعلا فيوقع اللوم على الحاكم ويسند إليه الجور والحيف والخصومة من حيث لا لوم عليه في الحقيقة إلا تقصيره بعدم بيان الأسباب المذكورة.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ» محل تنفيذ العقوبة المترتبة عليهم بعد تفهيمهم الحكم من الحاكم العدل وبيان أسبابه وتبيانه واعترافهم بجرمهم «زُمَراً» أفواجا بعضهم إثر بعض بواسطة شرطة العذاب الذين خصصهم الله تعالى لهذه الغاية في يوم النّهاية أذلاء مهانين مكبلين بالسلاسل والأغلال بدلالة لفظ السوق «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» لأنها كانت مغلقة لئلا يتأذى منها من ليس من أهلها لا خشية الفرار إذ لا فرار هناك كدور السجن في الدنيا فإنها تكون دائما مغلقة حتى إذا جيء بسجين جديد فتحت فأدخل وأغلقت أيضا، إهانة لهم وإعلاما بأن إدخالهم قسرا إذلال لهم «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها» الموكلون بها المفوضون بتعذيب أهلها بأنواع العذاب المقدر لهم بعلم الله وبالمكان المعين لهم من قبله حين يقضى عليهم لأن جهنم دركات الواحدة أشر من الأخرى عند إرادة إدخالهم الدركة المخصّصة لهم ليذوقوا وبال أمرهم من عذابها، ويقال لهم توبيخا وتقريعا «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» من جنسكم في الدنيا «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ» المنزلة عليهم من لدنه «وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى» إذ لم يبق مجال للإنكار والاحتجاج كما لا مجلل للفرار ولا محل لتعقيب الحكم من استئناف وتمييز وإعادة محاكمة كأحكام الدنيا إذ لا معقب لحكم الله، ولهذا يقول الله تعالى حكاية عنهم «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ» الصادرة من الإله العظيم شديد العقاب المبينة في الآية ١١٩ من سورة هود المارة «عَلَى الْكافِرِينَ ٧١» يعنون أنفسهم لأنهم كفروا بالله ورسله وما جاءهم من الوحي «قِيلَ» فتقول لهم الملائكة المذكورون بعنف وشدة بعد ما سمعوا قولهم «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها»
لا مخرج لكم منها البتة، وإنما قالوا أبواب لأن كلا منهم له عذاب دون الآخر، فيدخل كل الباب الذي فيه محل عذابه، ثم يقال لهم بعد أن يستقر كل في مكانه هذا مثواكم «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ٧٢» عن طاعة الله

ورسله المستأنفين عن قبول النصح والإرشاد المعرضين عن الهدى والصواب والسداد.
قال تعالى «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ» التي حكم لهم بدخولها والتنعم بنعيمها «زُمَراً» جماعات وزرافات على مراكبهم ومراتبهم، وجاء هنا لفظ السوق للمقابلة أو أنه للمراكب لا للراكبين لإرادة السرعة إلى دار الكرامة بالهيبة والوقار والاحترام، فشتان بين السوقين «حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» قبل وصولهم زيادة في تبجيلهم وليحصل لهم كمال السرور بدخولها رأسا من غير انتظار لأن الخزنة فتحوا أبوابها ووقفوا عليها صفوفا منتظرين قدومهم ليتشرفوا بهم كما هي الحالة في الدنيا عند قدوم أمير أو وزير أو عند ما يدخل السلطان مقامه في الأيام الرسمية ليتقبل التبريكات من رعيته والسلام عليه إذ يقف الجنود والموظفون صفوفا عن يمين وشمال الباب الذي يجلس فيه إكراما له وإعلاما بأنها مهيأة لهم، فيدخلون بالاحترام والتكريم وتؤدى لهم التحية عنده دخولهم وخروجهم، وهكذا في الآخرة تقف الملائكة صفوفا لاستقبال أهل الجنة، وشتان بين هؤلاء الصفوف وتلك الصفوف، راجع الآية ٥٠ من سورة ص في ج ١. ومن هنا فليعلم أهل الدنيا الفرق بين تلك الحالتين، وعند ما يقبل أهل الجنة تحييهم الملائكة عن يمين الأبواب وشمالها احتراما لهم بدلالة قوله تعالى «وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ» مقاما ونفسا «فَادْخُلُوها خالِدِينَ ٧٣» فيها أبدا فيدخل كل منهم الباب المهيء له فيها منزله بحسب عمله، اللهم اجعلنا منهم بكرمك «وَقالُوا» بعد أن رأوا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في الدنيا «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» الذي وعدنا به أنبياؤه في الدنيا «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» ملكنا أرض الجنة بدلا من أرض الدنيا والمراد بالأرض التي استقروا عليها بعد دخولهم الجنة تشبيها بأرض الدنيا من حيث الاسم وإلا لا مشابهة ولا مقايسة، وجعلنا «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» من قصورها ومضاربها ومنتزهاتها التي منحنا الله إياها مما تشتهيه أنفسنا وتلذ أعيننا «فَنِعْمَ» الأجر «أَجْرُ الْعامِلِينَ ٧٤» خيرا الفاعلين حسنا في الدنيا، الجنة ونعيمها:
نعمت جزاء المؤمنين الجنة | دار الأماني والمنى والمنة |