أحوال أهل العقاب وأهل الثواب
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
الإعراب:
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ (٧٣) جواب إِذا: إما محذوف تقديره: حتى إذا جاءوها فازوا أو نعموا، والواو فيه للحال بتقدير: قد، أو قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، أو قوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو زائدة، تقديره: حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها. والوجه الأول أوجه.
طِبْتُمْ حال.
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ حَافِّينَ: حال، لأن المراد ب تَرَى رؤية البصر لا رؤية القلب. وواحد حافين: حاف. وقال الفراء: هذا لا واحد له، لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلا مجتمعين.
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ الجملة حال ثانية.
البلاغة:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً مقابلة بينهما، قابل بين حال السعداء وحال الأشقياء. والمقابلة كما تقدم: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة.
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ استعارة، تشبيها بحال الوارث وتصرفه في إرثه.
المفردات اللغوية:
وَسِيقَ من السوق: وهو الحث على السير بعنف وشدة وإزعاج، بقصد الإهانة والاحتقار زُمَراً الزمر: جماعات أو أفواجا متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، بمقدار تفاوتهم في الضلالة والشر فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها، وهو جواب إذا، وفتح أبواب جهنم عند مجيئهم ليبقى حرها إليهم، إهانة لهم. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا وتوبيخا رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم آياتِ رَبِّكُمْ القرآن وغيره وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ويخوفونكم وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار، قال البيضاوي: وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ وجبت عليهم كلمة الله بالعذاب، وهو الحكم عليهم بالشقاوة بسبب أعمالهم، وأنهم من أهل النار، وقيل: هو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٩].
قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس، والمخصوص بالذم محذوف سبق ذكره، أي بئس المأوى جهنم، وهذا دليل على أن تكبرهم عن الحق سبب لدخول النار.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي أسرع بهم بلطف إلى دار الكرامة جماعات، على تفاوت مراتبهم في الشرف وعلو الطبقة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي والحال أنه قد فتحت لهم الأبواب قبل مجيئهم تكريما وتعظيما، وحذف جواب إِذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة والتعظيم ما لا يحيط به الوصف، وأن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم منتظرين استقبالهم، والجواب المقدر: دخلوها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي
فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي مخلدين فيها على الدوام أو مقدّرين الخلود، والفاء للدلالة على ان طِبْتُمْ سبب لدخولهم وخلودهم، وهو لا يمنع دخول العاصي بعفوه تعالى، لأنه يطهره.
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ عطف على الفعل المقدر جوابا ل إِذا وهو: دخلوها صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب والجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، يريدون المكان الذي استقروا فيه، وقد أورثوها، أي ملكوها وجعلوا ملاكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، على سبيل الاستعارة نَتَبَوَّأُ ننزل مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ننزل في أي مقام أردنا من الجنة الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
حَافِّينَ محدقين من حول العرش ومحيطين حوله. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ من كل جانب. ومِنْ مزيدة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهون ربهم من كل نقص، ملتبسين بحمده، قائلين: سبحان الله وبحمده، والجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، والمعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذا به. وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ حكم بين جميع الخلائق بالعدل، فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بيننا من الحق، والقائلون هم المؤمنون المقضي بينهم، أو الملائكة، وقد طوي ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم. والخلاصة: لقد ختم استقرار الفريقين بالحمد لله.
المناسبة:
بعد بيان أحوال أهل القيامة مجملا، بقوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أبان الله تعالى بالتفصيل أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب، ثم وصف ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة المحدقين الحافين حول العرش، الذين يسبحون بحمد ربهم، ينزهونه عن النقائص، ويشكرونه، ويقولون بعد استقرار الفريقين في الجنة والنار: الحمد لله رب العالمين على ما أنعم به، وقضى بالحق بين الخلائق.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال الأشقياء الكفار، كيف يساقون إلى النار، فيقول:
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي يساق الكافرون بربهم إلى النار، سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد، جماعات متفرقة مرتبة، بعضها إثر بعض، لكل جماعة قائد: هو رأسهم في الكفر وداعيتهم إليه. ونظير الآية:
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور ٥٢/ ١٣] أي يدفعون إليها دفعا.
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إليها، فتحت لهم أبوابها السبعة سريعا ليدخلوها ولتعجل لهم العقوبة، ويختصوا بنارها.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ أي وقال لهم خزنتها من الملائكة الزبانية الأشداء القوى حفظة النار والقائمين عليها، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل: ألم يأتكم رسل من جنسكم وأنفسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، يتلون عليكم آيات ربكم التي أنزلها لإقامة الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، ويحذرونكم من شر هذا اليوم، ويخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم إليه.
قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي أجابهم الكفار معترفين قائلين لهم: بلى، قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكن كذبناهم وخالفناهم، ووجبت كلمة العذاب على من كفر بالله وأشرك، وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٩].
ونظير الآية: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي
ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقالُوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ
[الملك ٦٧/ ٨- ١٠].
وبعد هذا الإقرار أجيبوا بإصدار حكم الجزاء، فقال تعالى:
قِيلَ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي تقول لهم الملائكة الحفظة على النار: ادخلوا في أبواب جهنم التي فتحت لكم، مقدّرا لكم فيها من قبل الله الخلود والبقاء، ماكثين فيها إلى الأبد، لا خروج لكم منها، ولا زوال لكم عنها، فبئس المسكن الدائم جهنم، بسبب تكبركم في الدنيا عن اتباع الحق، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه.
وإنما أبهم القائل وأطلق، ولم ينسب إلى قائل معين، ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه، بما حكم العدل الخبير عليهم به.
ثم يخبر الله تعالى عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون إلى الجنة مكرّمين، فيقول:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً أي وتسوق الملائكة المؤمنين بإعزاز وتشريف وتكريم وفدا إلى الجنة، جماعة بعد جماعة: المقربون، فالأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع أمثالهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع الصديقين، والشهداء مع بعضهم، والعلماء مع أقرانهم.
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها أي حتى إذا وصلوا إلى أبواب الجنة الثمانية، بعد مجاوزة الصراط، واقتص لهم من مظالم الدنيا، وكانت قد فتحت أبوابها لاستقبالهم بالحراس.
ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ: «وأنا أول من يقرع باب الجنة».
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ص قال: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر، فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال:
يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال ص: سبقك بها عكاشة».
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء».
وأخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: «إن في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمّى الريان، لا يدخله إلا الصائمون».
وروى أحمد عن الحسن عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «مفاتيح الجنة: شهادة أن لا إله إلا الله».
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ، فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي وقال خزنة الجنة للمؤمنين: سلامة لكم من كل آفة ومكروه، طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي، وطاب جزاؤكم في الآخرة،
كما أمر رسول الله ص أن ينادى بين المسلمين في بعض الغزوات فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم عن علي: «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة- أو مؤمنة»
فادخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا، لا زوال ولا تحول عنها، ولا موت ولا فناء فيها.
وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي وقال المؤمنون الأتقياء الذين عملوا
الصالحات إذا عاينوا الجنة وما فيها من نعيم مقيم وثواب وافر: الحمد والشكر لله العظيم الذي أنجزنا وعده بالبعث والثواب بالجنة، والذي وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، كما دعوا في الدنيا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران ٣/ ١٩٤]، وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر ٣٥/ ٣٤- ٣٥].
وجعلنا ملاك الجنة المتصرفين فيها، نرث أرض الجنة، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٥].
وأين شئنا حللنا، نتخذ في الجنة من المنازل ما نشاء حيث نشاء، فنعم الأجر أجرنا على عملنا، ونعم أجر العاملين: الجنة.
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج، قال النبي ص: «أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ «١»، وإذا ترابها المسك».
ثم أخبر الله تعالى عن حال الملائكة المحدقين حول العرش، فقال:
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي وترى أيها السعيد المؤمن جماعات الملائكة محيطين محدقين بالعرش المجيد، يسبّحون الله (ينزهون الله عن كل نقص وجور) ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه، ويحمدونه ويشكرونه على أفضاله ونعمه، قائلين: سبحان الله وبحمده.
والحال أيضا أنه قد قضي بين العباد بالعدل، فأدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار، ونطق المؤمنون والملائكة والكون أجمعه بالحمد والشكر لله ربّ العالمين من الإنس والجن، في حكمه وعدله وقضائه بين المؤمنين وبين أهل النار بالحق المطلق الذي لا خطأ فيه.
وأبهم القائل وأطلق هنا كالسابق للدلالة على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد. قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦/ ١]، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ويلاحظ أن المؤمنين حمدوا ربّهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم أرض الجنة، يتبوّءون منها حيث يشاءون، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق، والحكم بالعدل بين الناس جميعا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيات ما يأتي:
١- توفى كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار، والمؤمن إلى الجنة.
٢- يساق أهل النار إليها بسرعة وعنف، إهانة لهم واحتقارا، وهم حينذاك جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، وتفتح أبواب جهنم عند وصولهم إليها، وتقول لهم سدنتها تقريعا وتوبيخا: ألم تأتكم الرسل من جنسكم لتبليغكم الكتب المنزلة عليكم، وإنذاركم وتخويفكم لقاء وقتكم هذا؟
٣- يجيب أهل النار: نقر ونعترف بقيام الحجة علينا بمجيء الرسل، ولكن وجب العذاب على الكفار، لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود ١١/ ١١٩].
٤- دلّت هذه الآية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ.. على أنه لا تكليف ولا إيجاب لشيء من الشرائع والأحكام قبل مجيء الشرع، لأن الملائكة بيّنوا أنه ما بقي للكفار علّة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب، لما بقي في هذا الكلام فائدة.
٥- تقول الملائكة بعد سماع جواب الكافرين: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.
٦- يقاد الأتقياء بلطف وإعزاز وإكرام، من الشهداء والزهاد والعلماء والقرّاء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته، ويؤتى بهم إلى الجنة، فيجدون أبوابها مفتحة لهم: جَنَّاتِ عَدْنٍ، مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص ٣٨/ ٥٠] ويذكر خزنة الجنة لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث:
الأولى- قولهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ يبشّرونهم بالسلامة من كل الآفات.
الثانية- قولهم: طِبْتُمْ من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا.
الثالثة- قولهم: فَادْخُلُوها خالِدِينَ والتعليل بالفاء يدلّ على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة.
٧- سبب التفرقة بين أهل النار وأهل الجنة في فتح الأبواب، حيث فتحت أبواب النار بغير الواو، وفتحت أبواب الجنة بالواو: هو احتقار الفريق الأول وتخصيصهم بالنار، وإعزاز الفريق الثاني وإكرامهم بالاستقبال والاستعداد، فلا تفتح أبواب النار إلا عند دخول أهلها فيها، وتفتح أبواب الجنة قبل وصول أهلها إليها، ولذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها.
٨- إذا خاطبت الملائكة المتقين بالكلمات الثلاث السابقة، قال المتقون عند
ذلك وبعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده بنعيم الجنة، وأورثنا أرض الجنة، فنعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتنا.
٩- يكون الملائكة في جوانب العرش وأطرافه، قائلين: سبحان الله وبحمده، متلذذين بذلك لا متعبدين به، أي يصلون حول العرش شكرا لربهم، بعد أن قضي بين أهل الجنة والنار بالعدل، ويقول المؤمنون والملائكة ونحوهم:
الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه، ونصرنا على من ظلمنا. ويرى الرازي أن قوله: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين الملائكة، وهو دليل على أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حدّ محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه «١».
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر أو: المؤمنمكيّة، وهي خمس وثمانون آية.
تسميتها:
تسمى هذه السورة سورة غافر، لافتتاحها بتنزيل القرآن من الله غافر الذنب وقابل التوب، والغافر من صفات الله وأسمائه الحسنى. وتسمى أيضا سورة (المؤمن)، لاشتمالها على قصة مؤمن آل فرعون.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبه هذه السورة لما قبلها من ناحيتين:
الأولى- التشابه في الموضوع: فقد ذكر في كل من السورتين أحوال يوم القيامة وأحوال الكفار في يوم المحشر.
الثانية- الترابط بين خاتمة السورة السابقة ومطلع هذه السورة، فقد ذكر في نهاية سورة الزمر أحوال الكفار الأشقياء والمتقين السعداء، وافتتحت سورة غافر بأن الله غافر الذنب لحث الكافر على الإيمان وترك الكفر.
ومناسبة الحواميم السبع لسورة الزمر: تشابه الافتتاح بتنزيل الكتاب ورتبت الحواميم إثر بعضها، لاشتراكها بفاتحة حم وبذكر الْكِتابِ بعد حم وأنها مكية، بل ورد في حديث أنها نزلت جملة واحدة، وفيها شبه من ترتيب ذوات (الراء) الست. ذكر السيوطي عن صفحة رقم 68
ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ولم يتخللها نزول غيرها، وذلك مناسبة واضحة لوضعها هكذا.
ويقال لها أيضا: آل حم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شيء لبابا، ولباب القرآن آل حم، أو قال: الحواميم.
وقال النبي ص: «لكل شيء ثمرة، وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هنّ روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم».
وقال رسول الله ص لأصحابه في بعض الغزوات- فيما رواه أبو عبيد-: «إن بيّتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون- أو لا تنصرون».
وروى الحافظ أبو بكر البزار والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «من قرأ آية الكرسي، وأول حم المؤمن، عصم ذلك اليوم من كل سوء».
مشتملاتها:
سورة غافر والحواميم السبع مكية، فهي تعنى بأصول العقيدة كسائر السور المكية، لذا جاءت آياتها عنيفة شديدة التأثير لإثبات وحدانية الله وتنزيل القرآن والبعث، ووصف ملائكة العرش، وإنهاء الصراع بين أهل الحق وبين أهل الباطل أو فريق الهدى وفريق الضلال.
وقد ابتدأت بإعلان تنزيل الكتاب الكريم من الله المتصف بالصفات الحسنى، وهاجمت الكفار الذين يجادلون بالباطل، ثم وصفت مهام ملائكة العرش.
وأخبرت عن طلب أهل النار الخروج منها لشدة العذاب، ورفض هذا الطلب، وأقامت الأدلة على وجود الله القادر، وخوّفت من أهوال القيامة، وأنذرت الكفار من شدائد ذلك اليوم.
ثم لفتت الأنظار لموضع العبرة من إهلاك الأمم الغابرة وهو كفرهم بالآيات البيّنات التي جاؤوا بها، وخصّت بالذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون، وما دار من حوار بين فرعون وقومه وبين رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، وما فعله فرعون الطاغية من قتل أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم، خشية انتشار الإيمان في قومه، وانتهاء القصة بهلاك فرعون بالغرق في البحر مع جنوده، ونجاة موسى وقومه جند الإيمان في ذلك العصر.
وتلك هي قصة الإيمان والطغيان.
وقد أردف ذلك بإعلان خذلان الكافرين، ونصر الرسل والمؤمنين نصرا مؤزرا في الدنيا والآخرة.
وختمت القصة بأمر النبي ص بالصبر على أذى قومه كما صبر موسى وغيره من أولي العزم.
ثم أوردت السورة الأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته، وضربت المثل للمؤمن بالبصير، وللكافر بالأعمى، فالمؤمن نيّر القلب والبصيرة بنور الله، والكافر مظلم النفس يعيش في ظلمة الكفر.
وأتبعت ذلك ببيان نعم الله على عباده من الأنعام والفلك وغيرها.
وختمت السورة بما يؤكد الغرض المهم منها: وهو الاعتبار بمصرع الظالمين المكذبين، وما يلقونه من أصناف العذاب، ومبادرتهم إلى الإيمان حين رؤية العذاب، ولكن لا ينفعهم ذلك، فإن سنّة الله الثابتة ألا يقبل إيمان اليأس أو حال رؤية البأس.