آيات من القرآن الكريم

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۗ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ

ويلاحظ أن ظاهرة الشرك قديمة، وجاءت الرسل لتفنيدها وإبطالها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] والطاغوت: كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها، وقال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥].
٥- أجاب الله تعالى عن شبهة المشركين مقتصرا في الجواب على مجرد التهديد، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي إن الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة، فيجازي كلا بما يستحق.
ثم قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي إن الله لا يوفق للدين الذي ارتضاه، وهو دين الإسلام، ولا يرشد إلى الهداية من كذب على الله وافترى عليه، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه.
٦- أبان الله تعالى بعدئذ أنه لا ولد له كما يزعم جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى، فلو أراد تعالى أن يسمي أحدا من خلقه بأنه ولد، ما جعله عز وجل إليهم، سبحانه، أي تنزه وتقدس ربنا عن الولد، فهو الله الواحد الأحد، القهار لكل شيء.
من أدلة التوحيد وكمال القدرة وكمال الاستغناء
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥ الى ٧]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)

صفحة رقم 246

الإعراب:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ متعلق ب خَلَقَ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ذلِكُمُ: مبتدأ، ورَبُّكُمْ: خبره، ولَهُ الْمُلْكُ: خبر آخر، والْمُلْكُ: مرفوع بالجار والمجرور، وتقديره: ذلكم ربكم كائن له الملك. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيه وجهان: الرفع على أنه خبر آخر للمبتدأ، والنصب على أنه منصوب على الحال، وتقديره: منفردا بالوحدانية.
البلاغة:
تَكْفُرُوا تَشْكُرُوا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ يلقي هذا على هذا، والتكوير: اللف على الجسم المستدير، وهذا يدل على كروية الأرض، ومنه كوّر المتاع والعمامة: ألقى بعضه على بعض وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذلل وطوع، وجعلهما منقادين له يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى لوقت معين محدود هو يوم القيامة الْعَزِيزُ القوي الغالب على كل شيء الْغَفَّارُ لذنوب عباده إذا شاء وإذا تابوا. والآية دليل على وجود الله ووحدانيته وقدرته.
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي آدم ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها فيه ثلاث دلالات على وجود الله وتوحيده وقدرته: خلق آدم عليه السلام أولا من غير أب وأم، ثم خلق حواء منه أو من جنسه، ثم شعّب الخلق منهما. وثُمَّ معطوف على محذوف تقديره: مثل خلقها، للدلالة على مباينتها لها في الفضل والمزية، فهو- كما قال الزمخشري- من التراخي في الحال والمنزلة، لا من

صفحة رقم 247

التراخي في الوجود «١» وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى لكم وقسم، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم- الضأن والمعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكرا وأنثى. وهي جمع أزواج، والزوج: اسم لكل واحد معه غيره، فإن انفرد فهو فرد خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ أي بالتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحما فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة أو الصلب ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحق للعبادة والمالك لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رحمة عليهم وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ لأنه سبب فلا حكم، أي وإن تشكروا الله فتؤمنوا يرض الشكر لكم وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمحاسبة والمجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بحديث النفس، فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى في الآية المتقدمة كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا غالبا، أي كامل القدرة، أعقبه ببيان الأدلة الدالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه، فذكر ثلاثة أدلة: خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم، وتذليل الشمس والقمر لقدرته، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكرا وأنثى، وفي كل دليل من هذه الأدلة أدلة ثلاثة أبينها بمشيئة الله هنا.

(١) يعني أن ثُمَّ كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي، تكون أيضا لمطلق الترتيب.
والمعطوف عليه هنا مقدر هو خلقها.

صفحة رقم 248

التفسير والبيان:
الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي:
أ- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أبدع وأوجد العالم العلوي من السموات والأرض إبداعا قائما على الحق والصواب، لأغراض ضرورية وحكم ومصالح، فلم يخلقهما باطلا وعبثا، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدل على وجود الإله القادر، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، فهو واحد، كامل القدرة، كامل الاستغناء عن غيره.
ب- يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي يغشي كلا منهما الآخر، حتى يذهب ضوءه أو ظلمته، أو يجعلهما متتابعين متعاقبين، يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا، كقوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف ٧/ ٥٤] وقوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد ٥٧/ ٦].
وهذا دليل على كروية الأرض أولا: لأن التكوير: اللف على الجسم المستدير، وعلى دورانها حول نفسها ثانيا، لأن تعاقب الليل والنهار والنور والظلمة لا يتم دون دوران.
ج- وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وجعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ومصالحهم، وكل منهما يسير في فلكه إلى منتهى دورته، وإلى وقت معين محدود في علم الله، وهو انتهاء الدنيا، ومجيء القيامة، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤].
وذيّل الآية بالدلالة على المراد وهو إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة، فقال:

صفحة رقم 249

أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أَلا: تنبيه، أي تنبهوا، أي إن خلق هذا العالم العلوي وأجرامه العظيمة من غالب قادر على الانتقام ممن عاداه، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة، ولا أحد مثله في ذلك، والجمع بين هاتين الصفتين للدلالة على أنه مع عزته وعظمته وكبريائه وكمال قدرته، هو غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، يغفر لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه، فإن الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة، فأتبعه بوصف الْغَفَّارُ الذي يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة لا تعني الطمع من دون فعل، وإنما توجب الرجاء والرغبة في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له. والخلاصة: إن هذا التذييل للترغيب في العمل الموجب للمغفرة، بعد الترهيب الموجب للحذر.
ثم أتبعه بدليل آخر:
الدليل الثاني وأقسامه من العالم السفلي:
أ- خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام، ثم جعل من جنسها «١» زوجها، وهي حواء، ثم شعّب الخلق منهما، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء ٤/ ١] وهذا الجزء من الدليل في عالم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلة ثلاثة. والمشهور في قوله: مِنْها أنه خلق حواء من ضلع آدم، ولم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها.
ب- وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي وقضى لكم وقسم وخلق وأعطاكم من ظهور الأنعام (وهي الإبل والبقر والضأن والمعز) ثمانية أزواج من كل صنف ذكرا وأنثى، كما قال تعالى:

(١) وهذا رأي الرازي. [.....]

صفحة رقم 250

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام ٦/ ١٤٣] أي ذكر وأنثى لكل منها.
ج- يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ أي يبتدئ خلقكم ويقدره في بطون أمهاتكم في مراحل متدرجة من الخلق، حيث يكون أحدكم أولا نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يتكون العظام، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب، ثم تنفخ فيه الروح، فيصير إنسانا خلقا آخر في أحسن تقويم.
وتكون مراحل الخلق في ظلمات أغشية ثلاثة، هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، والأغشية- كما يقول الأطباء-: هي الغشاء المنباري، والخربون، والغشاء اللفائفي.
ثم ذيّل هذه الآية كالآية السابقة بما يشير إلى الهدف وهو الإيمان بالموجد الخالق المنشئ، فقال تعالى:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان هو الرب المربي لكم، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، ولا يشاركه أحد فيه، فلا تنبغي العبادة إلا له، فكيف تصرفون عن عبادته، مع ما يوجب استحقاقه لها، إلى عبادة غيره؟ أو كيف تعبدون معه غيره، وكيف تتقبل عقولكم ذلك؟
ثم أبان الله تعالى أن ثمرة هذه العبادة لكم، والله غني على الإطلاق، فقال:
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي إن تكفروا بالله بعد توافر أدلة وجوده وتوحيده وقدرته، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات، كما قال

صفحة رقم 251

تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٨].
وفي صحيح مسلم: «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا».
ثم ذكر الله تعالى ما يأمر به ويرضاه وما ينهى عنه ولا يرضاه، فقال:
وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي لا يحب الله تعالى الكفر ولا يأمر به، لأنه مرتع الضلال والانحراف والذل لمعبودات لا ضرر منها ولا نفع فيها، وهو سبب الشقاوة في الدارين.
وإن تشكروا الله على نعمه، يرض لكم الشكر ويحبه ويزدكم من فضله، لأن الله عز وجل هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة.
ثم أعلن الله تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام، فقال:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا من الآثام والذنوب والجرائم، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شر. وقد وردت هذه الآية في القرآن الكريم خمس مرات. وهي كقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور ٥٢/ ٢١] وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر ٧٤/ ٣٨].
والجزاء على قدر العمل، فقال تعالى:
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي ثم مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة، فيخبركم بأعمالكم من خير وشر، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره أي مكنونات النفوس، فلا تخفى عليه خافية.

صفحة رقم 252

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على الآتي:
١- الأدلة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد: هي خلق السموات والأرض وما بينهما، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر لمصالح العباد والمخلوقات، وخلق الإنسان في أصله أو باتخاذ الأسباب الظاهرية، وخلق ثمانية أزواج أو أصناف من الأنعام، من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن المعز اثنين، كل واحد زوج، والأزواج ثمانية تشمل الذكر والأنثى.
٢- دل تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها.
٣- ودل تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة، على كمال قدرة الله ودقة نظامه ومراعاته مصالح العباد.
٤- ينبه الله تعالى على أنه عزيز غالب، غفار ستّار لذنوب خلقه برحمته، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة، رهبة من الله عز وجل، ورغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله تعالى.
٥- مراحل خلق الإنسان تحدث متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى عظم ثم لحم. ويبدأ تكون الإنسان في داخل ظلمات ثلاث: ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
٦- إن الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم، وهو المالك الواحد الأحد، كما قال تعالى: رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.

صفحة رقم 253

فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟
٧- إذا كفر جميع الناس فلا يضرّون الله، والله هو الغني عنهم، لكن لا يرضى الله الكفر لعباده ولا يحب ذلك منهم، وإن شكروه رضي بالشكر وأمر به، ومصير جميع الخلائق إلى ربهم، فيخبرهم بما قدموا من خير أو شر.
والآية دليل على أن الإرادة غير الرضا، وهو مذهب أهل السنة، فقد يريد الله شيئا، لكن لا يرضى به، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس، وهو لا يرضاه، والرضا: ترك اللوم والاعتراض، وليس هو الإرادة.
٨- من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وذلك يدفع إلى العمل، ويمنع الخمول والكسل، ويخلّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه، دون تأثر بأفعال الآخرين، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان.
٩- دل قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ على إثبات البعث والقيامة، ودل قوله سبحانه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ على شمول علم الله بالكليات والجزئيات، وبالكبائر والصغائر، وبالفعل الحاصل والقول المقول، وبما يسبقه من نية وحديث نفس وعزم وهمّ وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول.

صفحة رقم 254
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية