ثم قال: ﴿قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ﴾، أي: قل لهم يا محمد: أتتخذونهم آلهة وإن كانوا لا يملكون لكم ضراً ولا نفعاً ولا يعقلون عنكم شيئاً.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾، أي: قل يا محمد: لله الشفاعة جميعاً فاعبدوه ولا تعبدوا ما لا يملك لكم شفاعة ولا غيرها.
﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾، أي: له سلطان ذلك وملكه، فما تعبدون أيها المشركون داخل في ملكه وسلطانه فاعبدوا المالك دون المملوك، فإليه ترجعون بعد موتكم فيجازيكم على أعمالهم.
قال قتادة: أم اتخذوا من دون الله شفعاء، يعني: الآلهة. قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً يعني: لا يملكون الشفاعة.
قال مجاهد: قل لله الشفاعة جميعاً، أي: " لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ".
قوله تعالى ذكره: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت﴾ - إلى قوله - ﴿وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾، أي: إذا أفرد الله تعالى بالعبادة والذكر فقيل: لا إله إلا الله نفرت وانقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث.
﴿وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ﴾، يعني: الأصنام.
﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، أي: يفرحون.
عنى بذلك ما ألقى الشيطان على لسان النبي ﷺ في سورة " والنجم " إذ قرأ: تلك الغرانيق العلى ووإن شفاعتهم لترتجى.
قال قتادة: " اشمأزت، أي: كفرت واسكتبرت ".
وقال مجاهد: اشمأزت انقبضت وهو قول المبرد.
وقال مجاهد: وذلك يوم قرأ عليهم " والنجم " عند باب الكعبة.
وقال السدي: اشمأزت: نفرت، وهو قول أبي عبيدة.
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة﴾، أي: قل يا محمد: يالله، يا خالق السماوات والأرض، يا عالم ما غاب وما ظهر.
﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ﴾، أي: تفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من تقبضهم عند توحيدك، واستبشارهم عند ذكر الأوثان وفي غير ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾، أي: كفروا بالله تعالى، ﴿ مَا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ يعني: يوم القيامة.
﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ لفدو به أنفسهم لو قُبِل ذلك منهم، فكيف وهم لا يكون لهم شيء من ذلك يوم القيامة، ولو كان لهم لم يقبل منهم.
ثم قال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾، (أي: وظهر لهؤلاء الكفار يوم القيامة من عذاب الله لم يكونوا يحتسبون) انه أعده لهم.
وقال مجاهد: معناه: أنهم علموا / أعمالاً توهموا (أنها حسنات، فإذا هي سيئات.
وقيل: معناه: أنهم " علموا أعمالاً توهموا) أنهم يتوبون قبل الموت منها فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة ".
وقيل: معناه أنهم توهموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم من الله دخول النار على ما قدموا.
وقيل: معناه أنهم عملوا أعمالاً توهموا أنها تنفعهم فأحبطها الشرك.
قال محمد بن المنكدر: وعملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها تنجيهم (فإذا بها) قد أهلكتهم وأوبقتهم.
ثم قال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾، أي: وبدا لهم عقاب سيئات أعمالهم.
وقيل: المعنى: وظهر سيئات عملهم في كتبهم إذا أُعْطَوْهَا بشمائلهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، أي: وجب عليهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزءون به إذا ذكر لهم، وخوفوا به تكذيباً له وإنكاراً.
ثم قال: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا﴾، أي: إذا أصابه بؤس وشدة دعا الله مستغيثاً به، فإذا خوّله نعمة منه وفرج عنه ﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ﴾، أي: قال: إنما الرخاء والسعة في المعيشة والصحة في البدن على علم من الله بأني له أهل ومستحق لشرفي، ورضاه بعملي.
وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي بالتجارة والطلب وغير ذلك.
وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي، أي: إذا أوتيت هذا في الدنيا إن لي عند الله منزلة. فرد الله تعالى عليه ذلك فقال تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً﴾ [القصص: ٧٨] وقد مضى ذكر هذا في القصص ".
وقوله: ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾، معناه: بل أعطينا إياهم تلك النعمة ابتلاء ابتليناهم بها واختباراً.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: لا يعلمون أنه ابتلاء واختبار لسوء رأيهم وجهلهم.
ثم قال تعالى: ﴿قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾، أي قد قال في نعم الله تعالى عليه، أي: إنما أوتيته على علم الذين كانوا من قبل هؤلاء من القرون الخالية لرسلهم تكذيباً لهم واستهزاءً، فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله تعالى ما كانوا يكسبون من الأعمال، يعني: عبادتهم الأوثان لم تغن عنهم شيئاً، ولم تشفع لهم كما يقول هؤلاء أنها تشفع لهم عند الله سبحانه، ولكنها أسلمتهم لما أتاهم من العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾، أي: فأصاب الأمم الخالية الذين قالوا مثل مقالة هؤلاء وبال عملهم فعذبوا في الدنيا، يعني: قارون وشبهه حين قال: إنما أوتيته على علم فخسف به وبداره الأرض.
ثم قال تعالى: ﴿والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾، أي: والذين
كفروا من قومك يا محمد سيصيبهم أيضاً وبال عملهم السيء كما أصاب أولئك.
﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾، أي: بفائتين ربهم هرباً في الأرض من عذابه إذا نزل بهم فأحلَّ الله تعالى عليهم عذابه فقتلوا بالسيف يوم بدر.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ﴾، أي: أَوَلَمْ يعلم هؤلاء الذين قالوا إنما أوتينا المال والصحة وغير ذلك على علم أن الله يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيّق على من يشاء.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أي: إن في توسيع الله تعالى على خلق، وتقتيره على خلق لحججاً ودلالات لقوم يؤمنون، أي: يصدقون بالحق.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾.
قال ابن عباس: قال بعض أهل مكة: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهاً آخرن وقتل النفس لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك، فأنزل الله تعالى ﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ﴾ الآية.
وقيل: إنها نزلت في نفر من المشركين خلا الإيمان في قلوبهم فقالوا في أنفسهم: ما نظن أن الله تعالى يقبل توبتنا وإيماننا وقد صنعنا بمحمد ﷺ كل شر: أخرجناه، وقتلنا أصحابه، وقاتلناه.
فأباح الله تعالى لهم التوبة ونهاهم أن يقنطوا
من رحمته.
قال مجاهد: الذين أسرفوا على أنفسهم هو قتل النفس في الجاهلية. وقال عطاء بن يسار: نزلت هذه الثلاث الآيات في وحشي وأصحابه، وروى ذلك عن ابن عباس، قال: فكان النبي لا يطيق أن ينظر لأنه قتل حمزة فظن وحشي أن الله تعالى لم يقبل إسلامه فنزلت هذه الآيات.
وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة وخلفوا بعد هجرة النبي ﷺ فأقاموا بمكة يفتنهم المشركون عن دينهم فافتتنوا، فكان بعضهم يقول: إن رجعت إلى الإسلام لم يقبلني محمد ﷺ ولم يقبل الله توبتي فأنزل الله تعالى هذه الآيات فيهم.
فمعنى أسرفوا على أنفسهم على هذا القول، أي: أسرفوا على أنفسهم بإقامتهم مع الكفار بمكة، وظنهم أن الله تعالى لا يقبل توبتهم ورجوعهم عن دينهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن قوماً أصابوا عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام
أشفقوا إن لم يتب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية.
قال السدي: هي في المشركين، كقول ابن عباس: وهو قول ابن زيد.
وكان ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجاً في القرآن: ﴿ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ﴾ الآية.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنها نزلت في أهل الإسلام. قال: كنا نقول: لمن افتن من توبة. وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئاً، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته. فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أنزل فيهم: ﴿ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ﴾ الثلاث الآيات.
قال عمر: فكتبتها بيدي وبعثتها إلى هشام بن العاصي. قال هشام: فجعلت أقرؤها ولا أفهمها فوقع في نفسي أنها نزلت فينا لِمَا كُنَّا نقول، قال: فجلست
على بعيري ثم لحقت بالمدينة.
وروي عن ابن عمر: أن هذه الآيات نزلن في عياش بن أبي ربيعة، والوليد ابن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به! فنزلت هذه الآيات.
وقال ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. فرد عليه ابن عباس وقال: بل أرجى
آية في القرآن. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦].
وروى شهر عن أسماء أنها سمعت النبي ﷺ يقرأ في هذه الآية: " إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، إنه هو الغفور الرحيم ".
وقال القرظي هي للناس أجمع.
وقيل: المعنى: يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب.
(وهذا لجماع) من تاب من كفره أو من ذنوبه فالله يغفر له ما تقدم من ذنوبه كلها.
وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ [النساء: ٩٣] الآية، وبقوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
والصواب أن الآية خبر لا يجوز نسخه فهي محكمة على ما بينَا من المعنى الذي ذكرنا.
وقوله: ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ يدل على أن الآية نزلت فيمن هو على غير الإسلام، وإن بالإسلام تغفر الذنوب كلها التي اكتسبت في الكفر.
وروى ثوبان مولى رسول ﷺ أن النبي ﷺ قال: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية. فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟! فسكت رسول الله ﷺ ثم
قال: ألا ومن أشرك (ألا ومن أشرك) - ثلاث مرات ".
وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا معشر أصحاب رسول الله ﷺ نقول: إنه ليس من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣] فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش. قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها، قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ و ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحد أصاب منها شيئاً خِفْنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له.
وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: القنوط من رحمة الله من الكبائر. واختار الطبري أن / تكون الآية عامة في أهل الإيمان وأهل الشرك لأن الله تعالى عَمَّ المُسرفين ولم يُخصِصّ به أحداً، فالشرك أعظم الذنوب وهو مغفور مع التوبة منه والرجوع عنه.
وكان ابن عباس يقرأ: " يغفر الذنوب لمن شاء ".
وقد قيل: إن قوله: ﴿يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ منسوخ بقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ [النساء: ٩٣]، وقيل: بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
والصواب أنها محكمة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، والله يغفر كل الذنوب لمن يشاء من المؤمنين، فلا نسخ فيه.
ومعنى " لا تقنطوا ": لا تيئسوا.
﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾، أي: يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها إذا تابوا منها.
﴿جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور﴾، أي: الساتر لذنوب التائبيبن.
﴿الرحيم﴾ بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
ثم قال تعالى: ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾، أي: ارجعوا إلى طاعة ربكم، وأقبلوا على عبادته، واخضعوا له، وأجيبوا داعيه.
﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب﴾ على كفرهم.
﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾، أي: لا ينصركم ناصر فينقذكم من عذاب الله تعالى.
والإنابة هنا: الإيمان والتوبة من الكفر.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الإيمان إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح. فقيل له: يا رسول الله، فهل لذلك من آية يعرف بها؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
ثم قال: ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾، أي: اعملوا بما في كتاب الله.
وقيل: معناه: إن الله أباح الانتصار بعد الظلم وأعلمنا أن العفو أحسن.
وقيل: المعنى: إن الله تعالى قد أخبر عن قوم أنهم عصوا، وعن قوم أنهم
أطاعوا فأمر أن تتبع الطاعة دون المعصية.
وقيل: المعنى: إن الله عز جل قد نسخ أحكاماً بما شاء فأمرنا أن تنبع الناسخ دون المنسوخ.
وقوله: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً﴾، أي: فجأة.
﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾، أي: لا تعلمون، وهذا ما توعد من الله جل ذكره لمن لم يَتُبْ.
ثم قال تعالى: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ " أن " مفعول من أجله. والأصل في " حسرتا ": يا حسرتي، ثم أبدل من الياء ألف.
والفائدة في نداء الحسرة أن حرف النداء يدل علة تمكن القصة من صاحلها وملازمتها له. فذلك أبلغ في الخبر.
وأجاز الفراء في الوصل: " يا حسرتاه " بضم الهاء وكسرها.
ولا يجيز النحويون إثبات الهاء في الوصل وقد جاء ذلك في الشعر. والمعنى: اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تصيروا إلى حال الندامة غداً.
ومعنى ﴿على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾، أي: على ما ضيّعته من العمل بما أمرني الله به، وقصّرت فيه في الدنيا.
قال مجاهد والسدي " في جنب الله "، أي: في أمر الله.
وقال الضحاك: " في ذكر الله، قال: يعني القرآن والعمل به ".
وقال أهل اللغة: المعنى: في جنب الله.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما جلس رجل مجلساً ولا مشى ممشىً ولا جَلَسَ اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه إلا كانت عليه ترة يوم القيامة، أي: حسرة ".
وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله تعالى يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه وعمل فيه بالحق كان له أجره وعلى الآخر وِزْرُه. ومن الحسرات أن يرى الرجل عنده الذي خوله الله في الدنيا (أقرب منه) منزلة من الله جل ذكره، أو يرى رجلاً يعرفه في الدنيا أعمى قد أبصر يوم القيامة وعمي هو.
وأصل الحسرة الندامة التي تلحق الإنسان حتى يصير معها حسيراً، أي: معيباً.
وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما تفرق قوم قط من مجلسهم، ولم يذكروا الله فهي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة.
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما جلس رجل ولا قوم مجلساً، ولا مشىً رجل ممشى، ولا اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه يوم القيامة
حسرة ".
وقوله: ﴿وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾، أي: وما كنت إلا من الساخرين، أي: كنت من المستهزئين بأمر الله سبحانه وكتابه.
قال قتادة: (لم يكفه) أن ضيع طاعة الله تعالى حتى جعل بأهل طاعة الله سبحانه.
قال قتادة: هذا قول صنف منهم /، فقال صنف آخر: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي...﴾ الآية، وقال صنف آخر: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾ الآية، أي: رجعة.
قال ابن عباس: أخبر الله جل ذكره ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وما هم عاملون قبل أن يعملوا (فقال ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: ١٤] وقال: ﴿لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَلَوْ رُدُّواْ﴾ [الأنعام: ٢٨]. وقال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠].
ومعنى: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي﴾، أي: وفقني للرشاد.
ثم قال: ﴿بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾ دخلت (هنا " بلى ") لأن معنى لو أن الله هداني (ما هداني). ودخلت جواباً للنفي حملاً على المعنى: (بلى هداني).
ومعنى الآية أنها تكذيب من الله جل ذكره للقائل: " لو أن الله هداني "، ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾، فأعلمهم أن كتابه وحججه قد أتاهم فكذبوا واستكبروا عن الإيمان به وكانوا من الكافرين به.
وروت أم سلمة أن النبي ﷺ قرأ: ﴿جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت﴾ بكسر الكاف والتاء على مخاطبة النفس. وبذلك قرأ الجحدري.