
وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ يحتملُ أن يَتَعَلَّقَ بقوله: الْمُحْسِنِينَ أي: الذين أحسنوا، لكَيْ يُكَفِّرَ وقاله ابن زيد «١»، ويحتملُ أن يتعلَّقَ بفعلٍ مُضْمَرٍ مَقْطُوعٍ مما قَبْلَهُ تقديرهُ:
يَسَّرَهُمُ اللَّهُ لذلكَ لِيُكَفِّرَ، لأنَّ التَّكْفِيرَ لاَ يكونُ إلا بَعْدَ التّيسير للخير.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٤٤]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تقوِيَةٌ لنفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: «عباده» «٢» يريد الأنبياءَ، وأنتَ يَا محمدُ أحدُهُمْ، فيدخلُ في ذلكَ المُؤْمِنُونَ المطيعُونَ والمتوكِّلُونَ على اللَّه سُبْحَانَهُ.
وقوله سبحانه: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أيْ: بالذين يَعْبُدُونَ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وقد تقدَّم تفسيرُ نظيرِهِ.
وقوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، أيْ: فلنفسه عَمِلَ وسعى، ومَنْ ضَلَّ فَعَلَيْهَا جنى، ثم نبَّه تعالى على آية مِنْ آياته الكبرى، تدِلُّ الناظِرَ على الوحدانيَّةِ، وأنَّ ذلك لا شِرْكَةَ فيه لِصَنَمٍ، وهي حالةُ التَّوَفِّي، وذلكَ أَنَّ ما تَوَفَّاهُ اللَّهُ تعالى على الكَمَالِ، فهو الذي يَمُوتُ، وما تَوَفَّاهُ تَوفِّياً غَيرَ مُكَمَّلٍ فهو الذي يكونُ في النَّوْم، قال ابن زيد: النوم وفاة
(٢) ينظر: «السبعة» (٥٦٢)، و «الحجة» (٦/ ٩٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣٣٨)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٩٨)، و «العنوان» (١٦٥)، و «حجة القراءات» (٦٢٢)، و «شرح شعلة» (٥٦٧)، و «إتحاف» (٢/ ٤٢٩).

والموتُ وفاة «١» وكثَّرَ الناسُ في هذه الآية، وفي الفَرْقِ بَيْنَ النَّفْسِ والرُّوحِ، وَفَرَقَ قَوْمٌ بَيْنَ نَفْسِ التمييزِ ونفس التخيُّل إلى غير ذلك مِن الأقوال التي هي غَلَبةُ ظَنٍّ، وحقيقةُ الأمْرِ في هذا هي مما استأثر اللَّه به وَغَيَّبَهُ عن عِبَادِهِ في قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:
٨٥]، ويكفيكَ أن في هذه الآية يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ، وفي الحديثِ الصحيحِ: إنَّ اللَّهَ قَبَضَ أرْوَاحَنَا حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْنَا حِينَ شَاءَ «٢». وفي حديث بلالٍ في الوَادي فقد نطقتِ الشريعةُ بقَبْضِ الرُّوحِ والنَّفْس، وقد قال تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي والظاهرُ أنَّ الخَوْضَ في هذا كُلِّهِ عَنَاءٌ، وإنْ كَان قَد تعرَّضَ للقَوْلِ في هذا ونحوه أئمةٌ، ذَكَرَ الثعلبيُّ عن ابن عباس أنه قال: «في ابن آدم نَفْسٌ ورُوحٌ بَيْنَهُمَا مِثْلُ شُعَاعِ الشَّمْسِ، فالنَّفْسُ هِيَ الَّتي بها العَقْلُ والتمييزُ، والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحَرُّكُ، فإذا نام العَبْدُ قَبَضَ اللَّهُ تعالى نَفْسَهُ ولم يَقْبِضْ رُوحَه» «٣»، وجاءَ في آداب النَّوم وأذكار النائِم أحاديثُ صحيحةٌ ينبغي للعبدِ ألاَّ يُخْلِيَ نفسَه مِنها، وقد روى جابرُ بن عبد اللَّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إذا أَوَى الرَّجُلُ إلى فِرَاشِهِ، ابتدره مَلَكٌ وَشَيْطَانٌ، فيقُولُ المَلَكُ: اختم بِخَيْرٍ، ويقُولُ الشَّيْطَانُ:
اختم بِشَرٍّ، فَإنْ ذَكَرَ اللَّهَ تعالى، ثُمَّ نَامَ بَاتَ المَلَكُ يَكْلَؤُهُ، فَإنِ استيقظ قال الملكُ:
افتح بِخَيْرٍ، وَقَالَ الشَّيْطَانُ: افتح بِشَرٍّ، فإنْ قَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي رَدَّ إلَيَّ نَفْسِي، وَلَمْ يُمِتْهَا في مَنَامِهَا، الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَلَئِنْ زَالَتَا إنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ/ إلاَّ بِإذْنِهِ، إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فإن وَقَعَ مِنْ سَرِيرهِ، فَمَاتَ، دَخَلَ الجنة» «٤»، رواه
(٢) أخرجه البخاري (٢/ ٧٩- ٨٠) كتاب «مواقيت الصلاة» باب: الأذان بعد ذهاب الوقت برقم: (٥٩٥)، (١٣/ ٤٥٥) كتاب «التوحيد» باب: في المشيئة والإرادة (٧٤٧١)، وأحمد (٥/ ٣٠٧)، والبيهقي (١/ ٤٠٣- ٤٠٤) كتاب «الصلاة» باب: الأذان والإقامة للفئة، (٢/ ٢١٦) كتاب «الصلاة» باب: لا تفريط على من نام عن صلاة أو نسيها، وأبو داود (١/ ١٧٤) كتاب «الصلاة» باب: من نام عن صلاة أو نسيها (٤٣٩)، والنسائي (٢/ ١٠٥- ١٠٦) كتاب «الإمامة» باب: الجماع للفائت من الصلاة برقم: (٨٤٦)، وابن حبان في «صحيحه» (٤/ ٤٤٨) كتاب «الصلاة» باب: ذكر خبر أوهم غير المتبحر في صناعة العلم: أن الصلاة الفائتة لا تؤدى عند طلوع الشمس حتى تبيض، (١٥٧٩)، وذكره البغوي في «شرح السنة» (٢/ ٨٦) كتاب «الصلاة» باب: الأذان للفائتة والإقامة لها (٤٣٩).
كلهم عن أبي قتادة عن أبيه، إلا أن بعضهم زاد، وبعضهم رواه مختصرا. [.....]
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٥٣٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٦١٦)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١/ ٥٤٨) كتاب «الدعاء»، وابن حبان (٧/ ٣٨٩- ٣٩٠) - الموارد

النسائي، واللفظ له، والحاكمُ في «المستدرك» وابن حِبَّانَ في «صحيحه»، وقال الحاكم:
صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ، وزاد آخره: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» انتهى من «السِّلاح»، وفيه عن أبي هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: مَنْ قَالَ حِينَ يَأوِي إلى فِرَاشِهِ: «لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، - غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَوْ خَطَايَاهُ- شَكَّ مِسْعَرٌ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» «١» رواه ابن حِبَّان في «صحيحه»، ورواه النسائي موقوفاً، انتهى، وروى التِّرمذيُّ عن أبي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: «مَنْ أوى إلى فِرَاشِهِ طَاهِراً يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ، لَمْ يَنْقَلِبْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ يسألُ اللَّهَ شَيْئاً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إلاَّ أَعْطَاهُ إيَّاهُ» «٢»، انتهى، والأجَلُ المسمّى
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. اهـ.
وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وهو عنده (٣/ ٣٢٦- ٣٢٧) برقم: (١٧٩١)، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة. اهـ بتصرف.
(١) أخرجه ابن حبان (٧/ ٣٩٤) - الموارد (٢٣٦٥)، وابن حبان (١٢/ ٣٣٨) كتاب «الزينة والتطيب» باب:
آداب الطعام، وذكر الشيء الذي يغفر الله ذنوب قائله إذا أوى إلى فراشه (٥٥٢٨)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٧٢٧)، وأبو نعيم في «أخبار أصفهان» (١/ ٢٦٧)، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (١/ ٤٦٨) كتاب «النوافل» باب: الترغيب في كلمات يقولهن حين يأوي إلى فراشه وما جاء فيمن نام ولم يذكر الله تعالى، برقم: (٨٧٩)، والهندي في «كنز العمال» (١٥/ ٣٤٧- ٣٤٨) (٤١٣٢٣) وفي الباب من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في «المسند» (٢/ ١٠).
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٤٠) كتاب «الدعوات» باب: (٩٣) (٣٥٢٦) والطبراني في «المعجم الكبير» (٨/ ١٤٧) (٧٥٦٨)، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (١/ ٤٦٣)، كتاب «النوافل» باب: الترغيب في أن ينام الإنسان طاهرا ناويا للقيام (٨٦٩)، والنووي في «الأذكار» (١٣٤) كتاب «ما يقوله إذا دخل في الصلاة» باب: ما يقرأ في الوتر وما يقوله بعدها (٢٦/ ٢٤٢).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وللحديث شاهد نحوه من حديث معاذ بن جبل: أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٢٧٧) كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا انتبه من الليل (٣٨٨١)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٢٠١)، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب:
ثواب من أوى طاهرا إلى فراشه يذكر الله تعالى حتى تغلبه عيناه (١٠٦٤٢/ ٢)، وأبو داود (٢/ ٣٧٠) كتاب «الأدب» باب: في النوم على طهارة (٥٠٤٢)، وأحمد (٥/ ٢٣٤، ٢٣٥، ٢٤١، ٢٤٤)، وذكره