آيات من القرآن الكريم

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ

النار، فأول شيء تمس منه النار وجهه، ومن هو آمن من العذاب لا يتعرض لشيء من المكروه والمخاوف. ويقال للظالمين الكافرين تبكيتا وتوبيخا:
ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.
٤- إن عقاب الأمم الماضية المكذبة بالرسل نوعان: عقاب في الدنيا بالمسخ والخسف والزلزلة والصيحة والريح الصرصر والغرق والقتل والأسر والتشريد والذل والهوان ونحو ذلك، مما أتاهم من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وعقاب آخر أشد وأنكى وأكبر وأعظم مما أصابهم في الدنيا، لو علموا به وتفكروا وتأملوا، وعملوا بمقتضى علمهم.
والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب.
عربية القرآن وضرب الأمثال فيه
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
الإعراب:
قُرْآناً عَرَبِيًّا قُرْآناً: توطئة للحال أو حال مؤكدة، وعَرَبِيًّا: حال من القرآن.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا.. بدل من مَثَلًا تقديره: ضرب الله مثلا مثل رجل، فحذف المضاف.

صفحة رقم 282

وفِيهِ شُرَكاءُ مرفوع بالظرف على المذهبين: البصري والكوفي، لأن الظرف وقع صفة لقوله: رَجُلًا. ورَجُلًا سَلَماً معطوف على قوله: رَجُلًا الأول، أي مثل رجل سالم.
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا تمييز.
المفردات اللغوية:
ضَرَبْنا جعلنا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه يَتَذَكَّرُونَ يتعظون غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه، ولا لبس ولا اختلاف يَتَّقُونَ الكفر.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد، وضرب المثل: تشبيه حال غريبة بحال أخرى مثلها مُتَشاكِسُونَ متنازعون مختلفون لسوء أخلاقهم وطباعهم سَلَماً سالما خالصا هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي لا يستوي العبد المملوك لجماعة، والعبد لواحد، فإن الأول يحتار فيمن يخدم من أسياده إذا طلبوه وهو مثل للمشرك، والثاني مثل للموحد.
الْحَمْدُ لِلَّهِ كل الحمد له وحده، لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر أهل مكة والكفار لا يعلمون ما ينتظرهم من العذاب، فيشركون بالله غيره، لفرط جهلهم.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك يا محمد ميت، والكل سواء في الموت، ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت. نزلت الآية لما استبطؤوا موته ص. والميّت (بالتشديد) من سيموت، والميت (بالتخفيف) من مات ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها الناس، فيه تغليب المخاطب على الغائب تَخْتَصِمُونَ تحتكمون للقضاء فيما حدث بينكم من المظالم.
المناسبة:
بعد بيان صفات القرآن الخمس المتقدمة والتي على رأسها أنه أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ذكر تعالى خواص أخرى للقرآن: هي أنه يضرب فيه الأمثال للناس تخويفا وتحذيرا، وأنه قرآن متلو إلى يوم القيامة، وأنه عربي اللسان، وغير ذي عوج، أي بريء من التناقض.

صفحة رقم 283

ثم ذكر فيه مثلا عجيبا للمؤمن الموحد والمشرك، يدل على فساد مذهب المشركين، بعد أن أفاض تعالى في شرح وعيد الكفار في هذه السورة.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لقد بيّنا للناس المطلوب فيه بضرب الأمثال، من كل مثل يحتاجون إليه في أمر دينهم، ومن أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن، لعلهم يتعظون، فيعتبرون. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٣]. والخلاصة: أن الحكمة في ضرب الأمثال للناس هي أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم، ويرتدعوا عن غيهم.
ووصف القران بصفات ثلاث: هي كونه قرآنا أي كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩]. وكونه عربيا بلسان عربي مبين، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته، كما قال سبحانه: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء ١٧/ ٨٨].
وكونه غير ذي عوج، أي براءته من التناقض، كما قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء ٤/ ٨٢]. وذلك لعلهم يتقون ما حذرناهم منه من بأس الله وسطوته.
وإنما قدم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ على لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لأن التذكر متقدم على الاتقاء، لأنه إذا اتعظ به وفهم معناه، حصل الاتقاء والاحتراز.
ثم ذكر تعالى مثلا للمؤمن الموحد والكافر المشرك، فقال:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا، فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ، وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ

صفحة رقم 284

يَسْتَوِيانِ مَثَلًا
؟ أي ضرب الله مثلا للمشرك في صنعه لا في معبوده، الذي يعبد أكثر من إله، بحالة رجل عبد مملوك يملكه عدد من الرجال، مختلفون فيما بينهم، متنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم، متعاسرون، لسوء أخلاقهم وطباعهم، كل له رأي وحاجة، فإذا طلب كل واحد من السادة من هذا العبد شيئا أو حاجة، فماذا يفعل، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك المشرك في عبادته آلهة متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة.
وضرب الله مثلا آخر للمؤمن الموحد بحالة رجل آخر مملوك لشخص واحد، لا يشاركه فيه غيره، فإذا طلب منه شيئا لبّاه دون ارتباك ولا حيرة، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله، ولا يسعى لإرضاء غير ربه، فهل يكون في طمأنينة أم في حيرة؟
هذان المملوكان هل يستويان صفة وحالا؟ أي لا يستوي هذا وهذا، فكذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟
ولما كان هذا المثل ظاهرا بيّنا جليا، قال تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي الحمد لله على إقامة الحجة عليهم، وعلى أن الحمد لله لا لغيره، وعلى التوفيق للإسلام والحق، بل أكثر الناس لا يعلمون هذا الفرق، فيشركوا مع الله غيره.
ونظرا لجهل أكثر الناس بالحق وعدم انتفاعهم بهذا المثل، أخبر تعالى تهديدا بالموت بأن مصير الخلائق كلهم إلى الله، وهناك يتقاضون في المظالم بين يدي الله، فقال:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أي إنك أيها الرسول ستموت، وهم سيموتون، ثم يحصل التقاضي عند الله، فيما اختلفتم

صفحة رقم 285

فيه في الدنيا من التوحيد والشرك، وسيحكم الله بينكم يوم القيامة، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين.
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ.. نعي أجل رسول ص وإعلام الصحابة بأنه يموت ولا يخلد في الدنيا، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت، وهو أيضا حث لكفار قريش على انتهاز الفرصة، والمسارعة إلى الإيمان، وتلقي الوحي عن النبي ص، لأن إقامته فيهم قليلة، وليس خالدا بينهم.
وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ليس خاصا بالمؤمنين والكافرين في التخاصم بينهم في الدار الآخرة، وإنما هي شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الآخرة. وهو دليل على أن محمدا ص سيخاصم قومه ويحتج عليهم بأنه قد بلغهم الرسالة وأنذرهم، وهم يخاصمونه، ويعتذرون بما لا معنى له.
روى الترمذي- وقال: حسن صحيح- عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله ص: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قال الزبير رضي الله عنه: أي، رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا، مع خواص الذنوب؟ قال ص:
«نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه».
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «أول الخصمين يوم القيامة جاران».
وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «والذي نفسي بيده، إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا».
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صفحة رقم 286

ص: «يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة، فتخاصمه الرعية، فيفلحون عليه، فيقال له: سدّ ركنا من أركان جهنم».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الآتي:
١- القرآن الكريم كتاب شامل كامل لم يترك شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلا بينه وأجلاه، حتى بالأمثال الموضحة للناس معانيه ومراميه، قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٣٨].
والقرآن الكريم عظة وتذكير، وسبب اتقاء الكفر وتكذيب الرسل.
وخواصه: أنه قرآن متلو في المحاريب وغيرها إلى يوم القيامة، ونزل بلسان عربي مبين، ولا تناقض ولا اختلاف فيه.
٢- إن مذهب المشركين في عبادة الأوثان وتعدد الآلهة فاسد باطل لا يقبله عاقل صحيح العقل، ومن عوامل بطلانه وتهافته أنه لا يحقق لذويه غاياتهم، وأبسط دليل على ذلك هو هذا المثل الذي ضربه القرآن هنا للمؤمن الموحد والكافر المشرك.
مثل الأول الذي يعبد الله وحده: مثل رجل عبد مملوك لسيد واحد، يستطيع إرضاءه وتحقيق مراده. ومثل الثاني الذي يعبد آلهة متعددة: مثل رجل عبد مملوك لعدة شركاء، يطلبون منه في الخدمة مطالب متعارضة، فكيف يستطيع إرضاء الكل؟ وأخلاقهم متباينة، ونياتهم متغايرة، لا يلقاه أحد إلا استخدمه في حوائجه الخاصة، فتراه يلقى منهم العناء والنصّب والتعب الشديد، وهو مع ذلك لا يرضي واحدا منهم بخدمته، لكثرة الحقوق والواجبات الملقاة على عاتقه، مما يجعله ينفر ويأبق ويهرب ولا يستمر على هذا النحو من العذاب.

صفحة رقم 287

أما الذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده، عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطئه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم؟! لذا ختم الله تعالى بيانه بتعليمنا فضله علينا، وإرشادنا إلى حمده وشكره والثناء عليه على أن هدانا للإسلام، ووفقنا للحق، بعد ظهور الحجة على الكافرين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق، فيتبعونه.
٣- إن مصير جميع الخلائق إلى الله لحسابهم وتصفية منازعاتهم والقضاء العدل فيهم، سواء المؤمنون والكافرون، فيتخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم،
وورد في خبر عن ابن منده عن ابن عباس: «إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاجّ الروح الجسد».
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحملت عليه».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله ص قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال رسول الله ص: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.

صفحة رقم 288
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية