آيات من القرآن الكريم

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎ ﰐﰑﰒﰓ ﰕﰖﰗﰘ ﰚﰛﰜﰝ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ

ثالثها- كونه غفارا لذنوب عباده المطيعين المخلصين في العبادة.
والمنذر به: هو الحساب والثواب والعقاب والنبوة والقرآن، وهذا خبر عظيم القدر، فلا ينبغي أن يستخف به. وليس من مهام النبي التسلط أو التجبر أو تحقيق النفوذ.
وأما بعض أدلة النبوة وإنزال الوحي عليه: فهو ما يخبر عنه القرآن الكريم من أنباء الملأ الأعلى وهم الملائكة حين اختصموا في أمر آدم حين خلق فقالوا:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة ٢/ ٣٠] وقال إبليس:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف ٧/ ١٢٠] فهذا البيان من محمد ص عن قصة آدم وغيره من الغيبيات لا يتصور إلا بتأييد إلهي، وحينئذ قامت المعجزة على صدقه.
فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه.
وقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال في العقائد ومنع التقليد.
قصة آدم عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٨٥]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)

صفحة رقم 228

الإعراب:
قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ الحق الأول بالرفع: إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: أنا الحق أو فالحق قسمي أو مني، وإما مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: فالحق متى، ويقرأ بالنصب على تقدير فعل، تقديره: الزموا الحق أو اتبعوا الحق، أو بتقدير حذف حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، والدليل على أنه قسم: قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.
وفَالْحَقُّ الثاني: منصوب ب أَقُولُ أي أقول الحق، وهو اعتراض بين القسم وجوابه.
وقرئ: فالحقّ والحقّ أقول، بالجر فيها على القسم، وإعمال حرف الجر في القسم مع الحذف، كما تقول: الله لأفعلن، (و) الله لأذهبن، وهي قراءة شاذة.
البلاغة:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيد بمؤكدين: لفظ كل، ولفظ أَجْمَعُونَ.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ رَبُّكَ أي اذكر حين ذلك. إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ هو آدم.
سَوَّيْتُهُ أتممته وعدّلت وأكملت خلقته. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته بنفخ الروح فيه، وأضاف الروح إلى نفسه لشرفه وطهارته، والروح: جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه.
فَقَعُوا لَهُ فخروا له أو اسقطوا له. ساجِدِينَ تكرمة وتبجيلا له، وهو سجود تحية بالانحناء، لا سجود عبادة.
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيدان، الأول لإفادة العموم، والثاني لإفادة الاجتماع في السجود.
إِبْلِيسَ هو أبو الجن، وكان من الملائكة. اسْتَكْبَرَ تعاظم. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، أو باستكباره عن أمر الله تعالى، واستنكافه عن الطاعة. ما مَنَعَكَ ما صرفك وصدك. خَلَقْتُ بِيَدَيَّ خلقته بنفسي من غير توسط أب وأم، واليد: القدرة، وهو تمثيل

صفحة رقم 229

للخلق المستقل وللدلالة على أنه معتنى بخلقه، فهذا تشريف لآدم، فإن كل مخلوق تولى الله خلقه.
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟ أي تكبرت الآن عن السجود من غير استحقاق، أم كنت من المتكبرين المتفوقين المستحقين للترفع عن طاعة الله، فتكبرت عن السجود، لكونك منهم، وهو استفهام توبيخ.
قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إبداء للمانع. فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة أو من السموات.
رَجِيمٌ مرجوم مطرود من الرحمة. لَعْنَتِي طردي. فَأَنْظِرْنِي فأمهلني. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يبعث الناس. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وقت النفخة الأولى. فَبِعِزَّتِكَ بسلطانك وقهرك. لَأُغْوِيَنَّهُمْ لأضلنهم. الْمُخْلَصِينَ المؤمنين الذين أخلصتهم للعبادة وعصمتهم من الضلالة.
فَالْحَقُّ المراد بالحق: إما اسمه عز وجل أو الحق الذي هو نقيض الباطل، عظمه الله باقسامه به، أي فالحق مني أو فالحق قسمي، وجواب القسم: لَأَمْلَأَنَّ. وَالْحَقَّ أَقُولُ أحق الحق وأقوله. مِنْكَ أي من ذريتك وجنسك. وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أي من ذرية آدم.
المناسبة:
هذه هي القصة الأخيرة في هذه السورة، وقد ذكرت في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف. والمقصود منها منع الحسد والكبر، لأن امتناع إبليس عن السجود كان بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا ص بسبب الحسد والكبر، وذكرت هنا لتكون زاجرا للكفار عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
التفسير والبيان:
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي اذكر يا محمد قصة خلق آدم أبي البشر، حين قال الله للملائكة: إني سأخلق بشرا هم آدم وذريته، مِنْ طِينٍ تراب مخلوط بالماء، كما في آية أخرى: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر ١٥/ ٢٦].

صفحة رقم 230

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فإذا أتممت خلقه وعدلته وأكملته، وجعلته حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه، فاسجدوا له، أي سجود التحية والتكريم، لا سجود العبادة. وهو أمر واجب بالسجود. والنفخ تمثيل لإفاضة مادة الحياة فيه، فليس هناك نافخ ولا منفوخ.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أي فامتثل الملائكة كلهم لأمر الله، وسجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وسجدوا مجتمعين في آن واحد، لا متفرقين.
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي سجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع مستكبرا متعاظما ولم يكن من الساجدين، جهلا منه بأنه طاعة، وكان استكباره استكبار كفر، فصار من الكافرين بمخالفة أمر الله وأنفته من السجود واستكباره عن طاعة الله، أو إنه كان من الكافرين في علم الله.
قالَ: يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قال الله له: يا إبليس ما الذي صرفك وصدك عن السجود لآدم، الذي توليت بنفسي خلقه من غير واسطة أب وأم، هل استكبرت عن السجود الآن، أم أنك كنت من القوم المتعالين عن ذلك؟ والمراد إنكار الأمرين معا.
فأجاب قائلا:
قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي إنني خير من آدم، فإني مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار خير وأشرف من الطين في زعمه، لما فيها من صفة الارتفاع والعلو، وأما التراب فهو خامد هابط لا ارتفاع فيه.
قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ قال الله تعالى: فاخرج من الجنة أو

صفحة رقم 231

من السموات أو من زمرة الملائكة، فإنك مرجوم بالكواكب، مطرود من رحمة الله ومحل أنسه ومن كل خير.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي وإن طردي مستمر دائم ما دامت الدنيا إلى يوم الجزاء والقيامة، ثم في الآخرة يلقى من عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق.
قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي قال إبليس: رب أمهلني حيا، ولا تعاجلني بالإماتة إلى اليوم الذي يبعث فيه الناس، أي آدم وذريته بعد موتهم. طلب هذا ليوسوس لآدم وذريته، فيثأر من آدم الذي كان سببا لطرده من رحمة الله.
قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قال الله تعالى:
فإنك من الممهلين، إلى اليوم الذي قدره الله لفناء الخلائق، وهو عند النفخة الأولى. وقد طلب إبليس الإنظار (الإمهال) إلى يوم البعث، ليتخلص من الموت، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث، لم يمت، فأنظره الله إلى وقت الصعق لا إلى البعث. فلما أمن الهلاك تمرد وطغى وتحدى قائلا:
قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي فإني أقسم بعزتك (سلطانك وقهرك) أن أضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم، وإدخال الشبه عليهم، إلا الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم من الضلالة والهوى والشيطان، فهؤلاء لا أقدر على إضلالهم وإغوائهم، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر ١٥/ ٤٢].
فأجابه الله تعالى:
قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ

صفحة رقم 232

أي قال الله: أنا الحق أو الحق مني ملء جهنم من إبليس وأتباعه، وأقول الحق:
لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين، وممن تبعك من ذرية آدم، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية. فهذا قسم من الله تعالى لإبليس أنه سيدخله وأتباعه النار حتى تمتلئ منهم. وقال الزمخشري: وَالْحَقَّ أَقُولُ أي ولا أقول إلا الحق، على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد.
فقه الحياة أو الأحكام:
قصة آدم عليه السلام هذه مع إبليس اللعين: تصوير بالغ للأمر الإلهي، وبيان مدى طاعته، وتقرير العقاب على المخالف، وعناصر القصة هي:
- لقد أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشرا من التراب، فإذا خلقه وأحياه، فيجب عليكم أن تسجدوا له إكراما وتحية، لا عبادة وتأليها.
- فامتثل الملائكة وسجدوا كلهم مجتمعين لآدم خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه إلا إبليس الذي كان من جنس الجن، فخانه طبعه وجبلته، فأنف من السجود لآدم، جهلا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى.
- سأله ربه سؤال تقرير وتوبيخ عن سبب امتناعه من السجود لما خلق الله، أكان ذلك استكبارا عن السجود أم كان من المتكبرين على ربه، فتكبر لهذا؟
- أجاب إبليس بأنه خير من آدم، لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، والنار في زعمه أشرف من الطين لما فيها من خاصية الارتفاع والاندفاع والتعالي. وهذا جهل منه، لأن الجواهر أو العناصر متجانسة متساوية، فقاس وأخطأ القياس.

صفحة رقم 233
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية