
قوله عز وجل:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
قرأ الحسن وأبو رجاء: «الرياح»، والجمهور على الإفراد.
وسخر الله تعالى الريح لسليمان وكان له كرسي عظيم يقال يحمل أربعة آلاف فارس، ويقال أكثر، وفيه الشياطين وتظله الطير، وتأتي عليه الريح الإعصار فتقله من الأرض حتى يحصل في الهواء ثم يتولاه الرخاء، وهي اللينة القوية المتشابهة لا تأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهر ورواحها شهر، وحَيْثُ أَصابَ حيث أراد، قاله وهب وغيره، وأنشد الثعلبي: [المتقارب]
أصاب الكلام فلم يستطع | فأخطى الجواب لدى المفصل |
واختلف الناس في المشار إليه بقوله: هذا عَطاؤُنا فقال قتادة: أشار إلى ما فعله بالجن فَامْنُنْ على من شئت منهم وأطلقه من وثاقه وسرحه من خدمته أَوْ أَمْسِكْ أمره كما تريد وقال ابن عباس: أشار إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليه من جماعهن. وقال الحسن بن أبي الحسن: أشار إلى جميع ما أعطاه من الملك وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عمن يشاء، فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته، وهو تعالى قد علم منه أن مشيئته عليه السلام إنما تتصرف بحكم طاعة الله، وهذا أصح الأقوال (وأجمعها لتفسير الآية)، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
أَيُّوبَ هو نبي من بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام، وهو نبي ابتلي في جسده وماله وأهله، وسلم دينه ومعتقده، وروي في ذلك أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه عن دينه، فأصابه في ماله، وقال له: إن أطعتني رجع مالك، فلم يطعه، فأصابه في أهله وولده، فهلكوا من عند آخرهم، وقال له: لو صفحة رقم 506

أطعتني رجعوا، فلم يطعه، فأصابه في جسده، فثبت أيوب على أمر الله سبع سنين وسبعة أشهر، قاله قتادة. وروى أنس عن النبي عليه السلام أن أيوب بقي في محنته ثماني عشر سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته. وروي أن السبب الذي امتحن الله أيوب من أجله هو: أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره. وروي أن السبب: كان أنه ذبح شاة وطبخها وأكلت عنده، وجار له جائع لم يعطه منها شيئا. وروي أن أيوب لما تناهى بلاؤه وصبره، مر به رجلان ممن كان بينه وبينهما معرفة فتقرعاه، وقالا له: لقد أذنبت ذنبا ما أذنب أحد مثله، وفهم منهما شماتا به، فعند ذلك دعا ونادى ربه.
وقوله عليه السلام: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ يحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله عليه حسبما ذكرنا، ويحتمل أن يريد: مسه إياه حين حمله في أول الأمر على أن يواقع الذنب الذي من أجله كانت المحنة، إما ترك التغيير عند الملك، وإما ترك مواساة الجار. وقيل أشار إلى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منه أن يشرك بالله، فكان أيوب يتشكى هذا الفعل، وكان أشد عليه من مرضه.
وقرأ الجمهور: «أني» بفتح الهمزة. وقرأ عيسى بن عمر: «إني» بكسرها.
وقوله: أَنِّي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر.
وقرأ جمهور الناس: «بنصب» بضم النون وسكون الصاد. وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم:
«بنصب» بفتح النون والصاد، وهي قراءة الجحدري ويعقوب، ورويت عن الحسن وأبي جعفر. وقرأ أبو عمارة عن حفص عن عاصم: «بنصب» بضم النون والصاد، وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع والحسن بخلاف عنه، وروى أيضا هبيرة عن حفص عن عاصم بفتح النون وسكون الصاد، وذلك كله بمعنى واحد، معناه المشقة، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء، وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى، من قولهم أنصبني الأمر ونصبني إذا شق علي، فمن ذلك قول الشاعر [الطويل] تبغاك نصب من أميمة منصب ومثله قول النابغة: [الطويل] كليني لهمّ يا أميمة ناصب قال القاضي أبو محمد: وقد قيل في هذا البيت إن ناصبا بمعنى منصب، وأنه على النسب، أي ذا نصب، وهنا في الآية محذوف كثير، تقديره: فاستجاب له.
وقال ارْكُضْ بِرِجْلِكَ والركض: الضرب بالرجل، والمعنى: اركض الأرض. وروي عن قتادة أن هذا الأمر كان في الجابية من أرض الشام. وروي أن أيوب أمر بركض الأرض فركض فيها، فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها، فذهب كل مرض في داخل جسده، ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه.
وروي أنه ركض مرتين ونبع له عينان: شرب من إحداهما، واغتسل في الأخرى وقرأ نافع وشيبة وعاصم والأعمش: «بعذاب اركض»، بضم نون التنوين. وقرأ عامة قراء البصرة: «بعذاب اركض»، بنون مكسورة و: مُغْتَسَلٌ معناه: موضع غسل، وماء غسل، كما تقول: هذا الأمر معتبر، وهذا الماء مغتسل مثله.