فَرَاغِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْمُبَاحَثَاتِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ فَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لِطَلَبِ مِثْلِ هَذِهِ السَّعَادَاتِ يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَامِلُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ وَمِنْ قَرِينِهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٢] فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فَحَصَلَ لَهُمَا ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أُقَاسِمُكَ فَقَاسَمَهُ وَاشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ فَأَرَاهَا صَاحِبَهُ وَقَالَ: كَيْفَ تَرَى حُسْنَهَا فَقَالَ: مَا أَحْسَنَهَا فَخَرَجَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ صَاحِبِي هَذَا قَدِ ابْتَاعَ هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَإِنِّي أَسْأَلُكَ دَارًا مِنْ دُورِ الْجَنَّةِ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ صَاحَبَهُ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ هَذَا بِأَلْفِ دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين، ثُمَّ إِنَّ صَاحَبَهُ اشْتَرَى بَسَاتِينَ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ هَذَا بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ مَا طَلَبَ/ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ إِلَى قَوْلِهِ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات:
٥٥].
المسألة الثالثة: قوله: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الثَّلَاثَةِ قَرَأَ نَافِعٌ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَمْزَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ وَالثَّالِثَةَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَفْهِمُ الثَّالِثَةَ بِهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ الْأُولَى وَالثَّالِثَةَ بِالِاسْتِفْهَامِ بِهَمْزَتَيْنِ وَالثَّانِيَةَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي جَمِيعِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَابْنُ كَثِيرٍ يَسْتَفْهِمُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُطَوَّلَةٍ وَبَعْدِهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ خَفِيفَةٌ، وَأَبُو عَمْرٍو مُطَوَّلَةً، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِهَمْزَتَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ لَتُرْدِينِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَقَالُوا: مَذْهَبُ الْخَصْمِ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوهِ الْإِنْعَامِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ مُشْتَرَكًا فِيهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْهِدَايَةِ لِلْمُؤْمِنِ. وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِخَلَاصِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالرَّدَى فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّعْمَةُ الْمَخْصُوصَةُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى تِلْكَ الْإِنْعَامَاتِ الَّتِي حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِقُوَّةِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ وَتَكْمِيلِ الصَّارِفِ عَنِ الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ نُفَاةُ عَذَابِ الْقَبْرِ بِقَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمُوتُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ حَصَلَتِ الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ الْمَوْتُ حَاصِلًا مَرَّتَيْنِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَا وَقَعَ فِي الدُّنْيَا وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٤]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَوَصْفِهَا لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: ٦١] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُورِدَ ذَلِكَ عَلَى كُفَّارِ قَوْمِهِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَكَمَا وَصَفَ مِنْ قَبْلُ مَآكِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَشَارِبَهُمْ وَصَفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَآكِلَ أَهْلِ النَّارِ وَمَشَارِبَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الرِّزْقَ الْمَعْلُومَ المذكور لأهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَيْ خَيْرٌ حَاصِلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَأَصْلُ النُّزُلِ الْفَضْلُ الْوَاسِعُ فِي الطَّعَامِ يُقَالُ طَعَامٌ كَثِيرُ النُّزُلِ، فَاسْتُعِيرَ لِلْحَاصِلِ مِنَ الشَّيْءِ، وَيُقَالُ أَرْسَلَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ نُزُلًا وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَصْلُحُ حَالُ مَنْ يَنْزِلُ بِسَبَبِهِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ حَاصِلُ الرِّزْقِ الْمَعْلُومِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ، وَحَاصِلُ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ الْأَلَمُ وَالْغَمُّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِأَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ فِي الْخَيْرِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ أَوْ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا اخْتَارُوا مَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى الرِّزْقِ الْكَرِيمِ، وَالْكَافِرِينَ اخْتَارُوا مَا أَوْصَلَهُمْ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى سُوءِ اخْتِيَارِهِمْ، وَأَمَّا الزَّقُّومِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ. لِلزَّقُّومِ تَفْسِيرًا إِلَّا الْكَلْبِيَّ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَكْثَرَ اللَّهُ فِي بُيُوتِكُمُ الزَّقُّومَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ التَّمْرَ وَالزُّبْدَ بِالزَّقُّومِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِجَارِيَتِهِ زَقِّمِينَا فَأَتَتْهُ بِزُبْدٍ وَتَمْرٍ، وَقَالَ تَزَقَّمُوا. ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الله تعالى لم يرد بالزقوم هاهنا الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ لَمْ يَكُنْ لِلزَّقُّومِ اشْتِقَاقٌ مِنَ التَّزَقُّمِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ مِنْ أَكْلِ الشَّيْءِ حَتَّى يُكْرَهَ ذَلِكَ يُقَالُ بَاتَ فُلَانٌ يَتَزَقَّمُ. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أنها شجرة كريهة الطعم مُنْتِنَةُ الرَّائِحَةِ شَدِيدَةُ الْخُشُونَةِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كُلُّ مَنْ تَنَاوَلَهَا عَظُمَ مِنْ تَنَاوُلِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُكْرِهُ أَهْلَ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ فَفِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا إِنَّمَا صَارَتْ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ، قَالُوا كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَنْبُتَ الشَّجَرَةُ فِي جَهَنَّمَ/ مَعَ أَنَّ النَّارَ تُحْرِقُ الشَّجَرَةَ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ خَالِقَ النَّارِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ النَّارَ مِنْ إِحْرَاقِ الشَّجَرِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي النار زبانية
وَاللَّهُ تَعَالَى يَمْنَعُ النَّارَ عَنْ إِحْرَاقِهِمْ فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ إِذَا عرفت هذا السؤال والجواب فمعنى كَوْنِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَعَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ فِي قُلُوبِهِمْ وَصَارَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ سَبَبًا لِتَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا فِتْنَةً لَهُمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَيْرُورَةَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فِي النَّارِ لِأَنَّهُمْ إِذَا كُلِّفُوا تَنَاوُلَهَا وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً فِي حَقِّهِمْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ الِامْتِحَانَ وَالِاخْتِبَارَ، فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ بَعِيدٌ عَنِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مُخَالِفٌ لِلْمَأْلُوفِ وَالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَى سَمْعِ الْمُؤْمِنِ فَوَّضَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ وَإِذَا وَرَدَ عَلَى الزِّنْدِيقِ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَصَفَهَا بِصِفَاتٍ الصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ قِيلَ مَنْبَتُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَأَغْصَانُهَا تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الطَّلْعُ لِلنَّخْلَةِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا طَلَعَ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ مِنْ حَمْلِهَا، إِمَّا اسْتِعَارَةً لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ سُمِّيَ (طَلْعًا) لِطُلُوعِهِ كُلَّ سَنَةٍ، وَلِذَلِكَ قِيلَ طَلْعُ النَّخْلِ لِأَوَّلِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرِهِ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ هَذَا الطَّلْعِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ فَفِيهِ سُؤَالٌ، لِأَنَّهُ قِيلَ إِنَّا مَا رَأَيْنَا رؤوس الشَّيَاطِينِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِهَا؟ وَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّاسَ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي الْمَلَائِكَةِ كَمَالَ الْفَضْلِ في الصورة والسيرة واعتقدوا فِي الشَّيَاطِينِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالتَّشْوِيهِ فِي الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ، فَكَمَا حَسُنَ التَّشْبِيهُ بِالْمَلَكِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَقْرِيرِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يُوسُفَ: ٣١] فَكَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَحْسُنَ التَّشْبِيهُ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُبْحِ وَتَشْوِيهِ الْخِلْقَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ لَا بِالْمَحْسُوسِ بَلْ بِالْمُتَخَيَّلِ، كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ أقبح الأشياء في الوهم والخيال هو رؤوس الشَّيَاطِينِ فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ تُشْبِهُهَا فِي قُبْحِ النَّظَرِ وَتَشْوِيهِ الصُّورَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ الْعُقَلَاءَ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا شَدِيدَ الِاضْطِرَابِ مُنْكَرَ الصُّورَةِ قَبِيحَ الْخِلْقَةِ، قَالُوا إِنَّهُ شَيْطَانٌ، وَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا حَسَنَ الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ، قَالُوا إِنَّهُ مَلَكٌ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَتَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي | وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ |
وعلم أَنَّهُمْ إِذَا شَبِعُوا فَحِينَئِذٍ يَشْتَدُّ عَطَشُهُمْ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الشَّرَابِ، فَعِنْدَ هَذَا وَصَفَ اللَّهُ شَرَابَهُمْ، فَقَالَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: ٦٧] قَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّوْبُ اسْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا خُلِطَ بِغَيْرِهِ، صفحة رقم 337