
يموتون قهرا، ويحشرون جبرا، ويلقون أمرا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
«قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا «١» مِنْ مَرْقَدِنا؟» يموتون على جهل، لا يعرفون ربّهم، ويبعثون على مثل حالهم، لا يعرفون من بعثهم، ويعدون ما كانوا فيه في قبورهم من العقوبة الشديدة- بالإضافة إلى ما سيلقون من الآلام الجديدة- نوما ورقادا، وسيطئون من الفراق المبرح والاحتراق العظيم الضخم مهادا، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغسّاقا، ولقد عوملوا بذلك استحقاقا: فقد قال جل ذكره: - «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)
إنما يضاف العبد إلى ما كان الغالب عليه ذكره والآخذ بمجامع قلبه، فصاحب الدنيا من فى أسرها، وأصحاب الجنة من هم طلّابها والساعون لها والعاملون لنيلها قال تعالى مخبرا عن أقوالهم وأخوالهم: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» «٢». وهذه الأحوال- وإن جلّت منهم ولهم- فهى بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البله» «٣» ومن كان في الدنيا عن الدنيا حرّا فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حرا، والله يختص برحمته من يشاء.
وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين، فيقول لهم: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ»
(٢) آية ٦١ سورة الصافات.
(٣) جاء في اللسان أن الأبله من تغلب عليه سلامة الصدر، وحسن الظنّ بالناس لأنه يغفل أمر دنياه، ويقبل على آخرته ويشغل نفسه بها، قال ﷺ «أكثر أهل الجنة البله» فهم أكياس في أمر الآخرة (اللسان ح ١٩ ص ٤٧٧) ط بيروت.

وهم أهل الحضرة والدنو، لا تشغلهم الجنة عن أنس القربة، وراحات الوصلة، والفراغ للرؤية «١» ويقال: لو علموا عمّن شغلوا لما تهنّأوا بما شغلوا.
ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ..» كأنه يخاطبهم مخاطبة المعاينة إجلالا لهم كما يقال: الشيخ يفعل كذا، ويراد به: أنت تفعل كذا.
ويقال: إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار، ولم يدخلوا الجنة بعد لعصيانهم فيقول الحق: عبدى.. أهل النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنك لأنهم في لذّاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم فليس لك اليوم إلا نحن! وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم، وذلك من أتمّ الأشغال، وهي أشغال مؤنسة مريحة لا متعبة موحشة.
ويقال: الحقّ لا يتعلّق به حقّ ولا باطل فلا تنافى بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم، وشهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مشغولون مستديمون لمعرفته بأى حالة هم، ولا يقدح اشتغالهم- باستيفاء حظوظهم- فى معارفهم.
ويقال شغل نفوسهم بشهواتها «٢» حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبة من إحساس النّفس الذي هو أصعب الرّقباء، ولا شىء أعلى من رؤية الحبيب مع فقد الرقيب.
قوله جل ذكره: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ».
(٢) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى.
وفي الخبر عن أبى سعيد الخدري قال (ص) :«إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا». ذكر ابن عباس: كلما أتى الرجل من أهل الجنة الحوراء وجدها بكرا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، ولا يكون بينهما منى، منه أو منها. (القرطبي ح ١٥ ص ٤٥).