آيات من القرآن الكريم

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
ﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ بَدَلٌ فِي الْمَعْنَى عَنْ قَوْلِهِ: كَمْ أَهْلَكْنا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى: كَمْ أَهْلَكْنا أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا، وفيه مَعْنَى، أَلَمْ يَرَوُا الْمُهْلَكِينَ الْكَثِيرِينَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَبَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْمُهْلَكِينَ، أَيْ أُهْلِكُوا بِحَيْثُ لَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَيْهِمْ فَيَصِيرُ كَقَوْلِكَ: أَلَا تَرَى زَيْدًا أَدَبَهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا:
أُهْلِكُوا إِهْلَاكًا لَا رُجُوعَ لَهُمْ إِلَى مَنْ فِي الدُّنْيَا وَثَانِيهِمَا: هُوَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، أَيِ الْبَاقُونَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْمُهْلَكِينَ بِنَسَبٍ وَلَا وِلَادَةٍ، يَعْنِي أَهْلَكْنَاهُمْ وَقَطَعْنَا نَسْلَهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْإِهْلَاكَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ قَطْعِ النَّسْلِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَشْهَرُ نَقْلًا، وَالثَّانِي أظهر عقلا، ثم قال تعالى:
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٢]
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
لَمَّا بَيَّنَ الْإِهْلَاكَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَرَكَهُ، بَلْ بَعْدَهُ جَمْعٌ وَحِسَابٌ وَحَبْسٌ وَعِقَابٌ، وَلَوْ أَنَّ مَنْ أُهْلِكَ تُرِكَ لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةً، وَنِعْمَ مَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيْ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَنُسْأَلُ بعده عن كل شيء
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا فِي إِنْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاللَّامُ فِي لَمَّا فَارِقَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، وَمَا زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْقِرَاءَةُ حِينَئِذٍ بِالتَّخْفِيفِ فِي لَمَّا وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا نَافِيَةٌ وَلَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا، قَالَ سِيبَوَيْهِ: يُقَالُ نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى إِلَّا فَعَلْتَ، وَالْقِرَاءَةُ حِينَئِذٍ بِالتَّشْدِيدِ فِي لَمَّا، يُؤَيِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُبَيًّا قَرَأَ وَمَا كَلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ وَفِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: لَمَّا بِمَعْنَى إِلَّا وَارِدُ مَعْنًى مُنَاسِبٍ وَهُوَ أَنَّ لَمَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ جُمِعَا وَهُمَا لَمْ وَمَا فَتَأَكَّدَ النَّفْيُ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي/ جَوَابِ مَنْ قَالَ قَدْ فَعَلَ لَمَّا يَفْعَلُ، وَفِي جَوَابِ مَنْ قَالَ فَعَلَ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِلَّا كَأَنَّهَا حَرْفَا نَفْيٍ إِنْ وَلَا فَاسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كُلٌّ وَجَمِيعٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَكَيْفَ جُعِلَ جَمِيعًا خَبَرًا لِكُلٍّ حَيْثُ دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ وَإِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ، نَقُولُ مَعْنَى جَمِيعٍ مَجْمُوعٌ، وَمَعْنَى كُلٍّ كُلُّ فَرْدٍ بحيث لَا يَخْرُجُ عَنِ الْحُكْمِ أَحَدٌ، فَصَارَ الْمَعْنَى كُلُّ فَرْدٍ مَجْمُوعٌ مَعَ الْآخَرِ مَضْمُومٌ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُحْضَرُونَ، يَعْنِي عَمَّا ذَكَرَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَإِنْ جَمِيعٌ لَجَمِيعٌ مُحْضَرُونَ، لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا وَلَمْ يُوجَدْ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَوَابِ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ مُحْضَرُونَ كَالصِّفَةِ لِلْجَمِيعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَمِيعٌ جَمِيعٌ مُحْضَرُونَ، كَمَا يُقَالُ الرَّجُلُ رَجُلٌ عَالِمٌ، وَالنَّبِيُّ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالْوَاوُ فِي وَإِنْ كُلٌّ لِعَطْفِ الْحِكَايَةِ عَلَى الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ بَيَّنْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ، وَأُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ، وَكَذَلِكَ الواو في قوله تعالى:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥)
كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَأَقُولُ أَيْضًا آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا وَجْهُ تَعَلُّقِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ؟ نَقُولُ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:

صفحة رقم 271

وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس: ٣٢] كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى الْحَشْرِ، فَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِمْكَانِهِ قَطْعًا لِإِنْكَارِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَقَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا كَذَلِكَ نُحْيِي الْمَوْتَى وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُرْسَلِينَ وَإِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ وَكَانَ شَغْلُهُمُ التَّوْحِيدَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبَدَأَ بِالْأَرْضِ لِكَوْنِهَا مَكَانَهُمْ لَا مُفَارَقَةَ لَهُمْ مِنْهَا عِنْدَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَرْضُ آيَةٌ مُطْلَقًا فَلِمَ خَصَّصَهَا بِهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَآيَةٌ لَهُمُ نَقُولُ: الْآيَةُ تُعَدَّدُ وَتُسْرَدُ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّيْءَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الشَّيْءَ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَةِ لَا يُذْكَرُ لَهُ دَلِيلٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ وَعِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ عَرَفُوا اللَّهَ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَلَيْسَتِ الْأَرْضُ مُعَرَّفَةً لَهُمْ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فُصِّلَتْ: ٥٣] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فُصِّلَتْ: ٥٣] يَعْنِي أَنْتَ كَفَاكَ رَبُّكَ مُعَرِّفًا، بِهِ عَرَفْتَ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ شَهِيدٌ لَكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ تَبَيَّنَ لهم الحق بالآفاق والأنفس، وكذلك هاهنا آيَةٌ لَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى فَيَكْفِي قَوْلُهُ: أَحْيَيْناها وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ وَوَحْدَتِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها لِأَنَّ نَفْسَ الْأَرْضِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ وَبُرْهَانٌ بَاهِرٌ، ثُمَّ هَبْ أَنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ فَقَوْلُهُ: الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها كَافٍ فِي التَّوْحِيدِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا نقول مذكورة للاستدلال عليها ولكل ما ذكره الله تعالى فائدة. أما قَوْلِهِ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَلَهُ فَائِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْيَا الْأَرْضَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا حَبًّا كَانَ ذَلِكَ إِحْيَاءً تَامًّا لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمُخْضَرَّةَ الَّتِي لَا تُنْبِتُ الزَّرْعَ وَلَا تُخْرِجُ الْحَبَّ دُونَ مَا تُنْبِتُهُ فِي الْحَيَاةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى الَّذِي أَحْيَا الْأَرْضَ إِحْيَاءً كَامِلًا مُنْبِتًا لِلزَّرْعِ يُحْيِي الْمَوْتَى إِحْيَاءً كَامِلًا بِحَيْثُ تُدْرِكُ الْأُمُورَ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلِأَنَّ فِيهِ تَعْدِيدَ النِّعَمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ فَإِنَّهَا مَكَانُهُمْ وَمَهْدُهُمُ الَّذِي فِيهِ تَحْرِيكُهُمْ وَإِسْكَانُهُمْ وَالْأَمْرُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي عِنْدَهُ وُجُودُهُمْ وَإِمْكَانُهُمْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَيْتَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ فَهِيَ مَكَانٌ لَهُمْ لَا بد لهم منها فهي نِعْمَةٌ ثُمَّ إِحْيَاؤُهَا بِحَيْثُ تَخْضَرُّ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ فَإِنَّهَا تَصِيرُ أَحْسَنَ وَأَنْزَهَ، ثُمَّ إِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنْهَا نِعْمَةٌ ثَالِثَةٌ فَإِنَّ قُوتَهُمْ يَصِيرُ فِي مَكَانِهِمْ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رِزْقَهُمْ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْوُثُوقُ، ثُمَّ جَعَلَ الْجَنَّاتِ فِيهَا نِعْمَةً رَابِعَةً لِأَنَّ الْأَرْضَ تُنْبِتُ الْحَبَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَمَّا الْأَشْجَارُ بِحَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهَا الثِّمَارُ فَتَكُونُ بَعْدَ الْحَبِّ وُجُودًا، ثُمَّ فَجَّرْنَا فِيهَا الْعُيُونَ لِيَحْصُلَ لَهُمُ الِاعْتِمَادُ بِالْحُصُولِ وَلَوْ كَانَ مَاؤُهَا مِنَ السَّمَاءِ لَحَصَلَ وَلَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا أَيْنَ تُغْرَسُ وَأَيْنَ يَقَعُ الْمَطَرُ وَيَنْزِلُ القطر وبالنسبة إِلَى بَيَانِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كُلُّ ذَلِكَ مُفِيدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا كَالْإِشَارَةِ إِلَى الْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ كَالْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ الَّذِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُغْنِي الْإِنْسَانَ لَكِنَّهُ يَبْقَى مُخْتَلَّ الْحَالِ وَقَوْلُهُ: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ إِشَارَةٌ إِلَى الزِّينَةِ الَّتِي إِنْ لم تكن لا تغني الْإِنْسَانَ وَلَا يَبْقَى فِي وَرْطَةِ الْحَاجَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَنْبَغِي، وَكَأَنَّ حَالَ الْإِنْسَانِ بِالْحَبِّ كَحَالِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ مَا يَسُدُّ خَلَّتَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلَا يَدْفَعُ حَاجَتَهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَبِالثِّمَارِ وَيُعْتَبَرُ حَالُهُ كَحَالِ الْمُكْتَفِي بِالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَيُقَوِّي بِهَا قَلْبَهُ كَالْمُسْتَغْنِي الْغَنِيِّ الْمُدَّخِرِ لِقُوتِ سِنِينَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا فَعَلْنَا فِي مَوَاتِ الْأَرْضِ كَذَلِكَ نَفْعَلُ فِي الْأَمْوَاتِ فِي الْأَرْضِ فَنُحْيِيهِمْ وَنُعْطِيهِمْ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ فِي

صفحة رقم 272

بَقَائِهِمْ وَتَكْوِينِهِمْ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا وَقُوَاهَا كَالْعَيْنِ وَالْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ وَالْأُذُنِ وَالْقُوَّةِ السَّامِعَةِ وَغَيْرِهِمَا وَنَزِيدُ لَهُ مَا هُوَ زِينَةٌ كَالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالْإِدْرَاكِ الشَّامِلِ فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ نُحْيِي الْمَوْتَى إِحْيَاءً تَامًّا كَمَا أَحْيَيْنَا الْأَرْضَ إِحْيَاءً تَامًّا.
المسألة الرابعة: قال عند ذِكْرِ الْحَبِّ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَفِي الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ قَالَ: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَّ قُوتٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَقَالَ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أَيْ هُمْ آكِلُوهُ، وَأَمَّا الثِّمَارُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنْ كُنَّا مَا أَخْرَجْنَاهَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ فَأَخْرَجْنَاهَا لِيَأْكُلُوهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: خَصَّصَ النَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّ أَلَذَّ الْمَطْعُومِ الْحَلَاوَةُ، وَهِيَ فِيهَا أَتَمُّ وَلِأَنَّ التَّمْرَ وَالْعِنَبَ قُوتٌ وَفَاكِهَةٌ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهُمَا وَلِأَنَّهُمَا أَعَمُّ نَفْعًا فَإِنَّهَا تُحْمَلُ مِنَ الْبِلَادِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الرُّمَّانَ وَالزَّيْتُونَ فِي الْأَنْعَامِ وَالْقَضْبَ وَالزَّيْتُونَ وَالتِّينَ فِي مَوَاضِعَ، نَقُولُ فِي الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا الْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ [الأنعام: ٩٩] وَإِلَى قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عَبَسَ: ٢٤] فاستوفى الأنواع بالذكر وهاهنا الْمَقْصُودُ ذِكْرُ صِفَاتِ الْأَرْضِ فَاخْتَارَ مِنْهَا الْأَلَذَّ الْأَنْفَعَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْفَوَائِدُ وَيُعْلَمُ مِنْهُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرَّحْمَنِ: ٦٨].
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ الْفَوَاكِهَ لَمْ يَذْكُرِ التَّمْرَ بِلَفْظِ شَجَرَتِهِ وَهِيَ النَّخْلَةُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعِنَبَ بِلَفْظِ شَجَرَتِهِ بَلْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعِنَبِ وَالْأَعْنَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَرْمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِنَبَ شَجَرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهِ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةُ الْفَائِدَةِ وَالنَّخْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ثَمَرَتِهِ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ كَثِيرَةُ الْجَدْوَى، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الظُّرُوفِ مِنْهَا يُتَّخَذُ وَبِلِحَائِهَا يُنْتَفَعُ وَلَهَا شَبَهٌ بِالْحَيَوَانِ فَاخْتَارَ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَعْجَبُ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَجْزَاؤُهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ لَا تَصْعَدُ وَنَحْنُ نَرَى مَنَابِعَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْقَائِلُونَ بِالطَّبَائِعِ قَالُوا إِنَّ الْجِبَالَ كَالْقِبَابِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْأَبْخِرَةُ تَرْتَفِعُ إِلَيْهَا كَمَا تَرْتَفِعُ إِلَى سُقُوفِ الْحَمَّامَاتِ وَتَتَكَوَّنُ هُنَاكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ تَجْتَمِعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَوِيَّةً تَحْصُلُ الْمِيَاهُ الرَّاكِدَةُ كَالْآبَارِ وَتَجْرِي فِي الْقَنَوَاتِ، إِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً تَشُقُّ الْأَرْضَ وَتَخْرُجُ أَنْهَارًا جَارِيَةً وَتَجْتَمِعُ فَتَحْصُلُ الْأَنْهَارُ الْعَظِيمَةُ وَتَمُدُّهَا مِيَاهُ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، فَنَقُولُ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْجِبَالِ بِالْعُيُونِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَمَا ذَكَرُوهُ تَعَسُّفٌ، فَالْحَقُّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَاءَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُرْتَفِعَةِ وَسَاقَهَا فِي الْأَنْهَارِ وَالسَّوَاقِي أَوْ صَعَدَ الْمَاءُ مِنَ المواضع المستفلة إِلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَجَرَى فِي الْأَوْدِيَةِ إِلَى الْبِقَاعِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أهلها.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ وَالتَّرْتِيبُ ظَاهِرٌ وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِمَ أَخَّرَ التَّنْبِيهَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِقَوْلِهِ: لِيَأْكُلُوا عَنْ ذِكْرِ الثِّمَارِ حَتَّى قَالَ: وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ وَقَالَ فِي الْحَبِّ: فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْحَبِّ، وَلَمْ يَقُلْ عَقِيبَ ذِكْرِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ لِيَأْكُلُوا؟ نَقُولُ الْحَبُّ قُوتٌ وَهُوَ يَتِمُّ وُجُودُهُ بِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ وَلِهَذَا يُرَى أَكْثَرُ الْبِلَادِ لَا يَكُونُ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ وَالْحِرَاثَةُ لَا تَبْطُلُ هُنَاكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَاءِ السَّمَاءِ وَهَذَا لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ أَعَمَّ

صفحة رقم 273
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية