قال تعالى «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ» إذا لم يؤمنوا بالرسل ويا ويلهم من يوم الحسرة راجع تفسير الآية ٢٩ من سورة مريم الآتية، ثم بين سبب هذه الحسرة بقوله عز قوله «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٣٠ يسخرون من قوله لا يسمعون نصحه، وهذه نظير الآية ١٠ من سورة الحجر في ج ٢، ومعنى الحسرة العم والندم على ما فات لأن الإنسان من شدة الندم على صنعه الضر وتضييعه فرصة تلاقيه بالخير، وإهماله أوقاته سدى يركبه غم لا نهاية له بعده، ونزلت الحسرة منزلة العقلاء بإدخال حرف النداء عليها كأنه قال يا حسرة احضري، فهذه الحال من الأحوال التي يجب أن تحضري فيها لأهميتها والمعنى أنهم أحقاء بان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون لرفضهم الخير الذي جاء إليهم من الله عفوا دون طلب،
ثم التفت الى أهل مكة بعد الانتهاء من هذه القصة فقال عز قوله «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ» الخالية من أهل كل عصر. وسموا قرونا لاقترانهم في الوجود، والرؤية هنا علمية لا بصرية لأن أهل مكة لم يحضروا هلاك من قبلهم من الأمم الخالية حتى يروه عيانا بل علموه بالأخبار المتناقلة عن الأجيال بمشاهدة آثار المهلكين من أطلال مساكنهم، اما أهل الفيل أبرهة ومن معه فلا يعدون من القرون الخالية لأنهم كانوا في زقهم وآبائهم ومنهم من شاهد ما وقع بهم، راجع تفسير سورة الفيل المارة «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» ٣١ لان الهالك في الدنيا لا يرجع إلى الدنيا، وإنما مصيره الآخرة ينم على هذا قوله «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا» أي الأوان هنا بمعني لا النافية أي ما كل إلا جميع لدينا، قيل إنها مخففة وما زائدة وعليه يكون المعنى انه إي الحال والشان كل جميع لدينا، والأول أولى إذ لا زائد في كتاب الله «جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» ٣٢ يوم القيمة للحساب والجزاء أفلا يعتبر أهل مكة بهم ويتحققوا أن مصيرهم كمصيرهم بل انهم سيموتون ويرجعون إلينا فنحاسبهم ونعاقبهم، وقرىء لما بالتخفيف، وعليه تكون ما للتأكيد وان مخففة من الثقيلة، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، ويكون المعنى ان
كلهم مجموعون محضرون ليوم الدين «وَآيَةٌ لَهُمُ» لمنكري البعث أهل مكة وغيرهم دالة على إحياء الأموات «الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ» الجافة اليابة التي لا نبات فيها قد «أَحْيَيْناها» بعد موتها بانزال المطر وإخراج النبات فيها «وَأَخْرَجْنا مِنْها» من النبات الخارج فيها بسبب الغيث «حَبًّا» نكره ليعم جميع الحبوب مما يأكله الإنسان والحيوان «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» ٣٣ جميعهم وقدم المتعلق بالكسر على المتعلق بالفتح لإفادة الحصر أي كأنهم لا يأكلون غيره، لأن مغظم أكلهم منه «وَجَعَلْنا فِيها» أيضا بسبب الغيث جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ» ٣٤ الكثيرة مياها متدفقة غزيرة لا تنضب وانما فعلنا ذلك «لِيَأْكُلُوا» كافه خلقنا من ثمره الحاصل من حبه ومن الأشجار الأخرى وذلك كله بسبب الغيث المسبب لحمأة الأرض، وأعاد بعض المفسرين ضمير ثمره الى الله جل شأنه وتوجيهه أن الثمر نفسه فعل الله وخلقه إلا أن فيه آثارا من فعل البشر، فيكون أصل الكلام من ثمرنا كما قال تعالى وفجرنا فنقل الكلام في التكلم الى الغيبة على طريق الالتفات، والأول أولى وأليق بالمقام وأنسبه للسياق، إذ لا داعي هذا التكلف مع ظهور المعنى على الأول «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» أي ذلك الحب والثمر البديع الصنع بل هيّء لهم بصنع الله لأن الزرع ليس زرعهم بل من فعل الله والغرس ليس غرسهم بل من عمل الله وان أتعابهم التي صرفوها في ذلك هي من قدرة الله، لأنه لو لم يقدرهم على ذلك لما قدروا على شيء أصلا ولو شاء لحرمهم منه بتسليط آفة سماوية عليه أو أرضية فيقطع عنهم الماء أو يرسل حرا أو بردا أو آفة فيدمره، راجع تفسير الآية ٦٣ فما بعدها من سورة الواقعة الآتية والآية ٩٦ من سورة الصافات في ج ٢ ويجوز أن يكون المراد ليأكلوا من ثمره رأسا أو مما عملته أيديهم منه كعصير العنب والبرتقال والثمر وسائر الفواكه وما يعقدونه منها أو يخرجونه بغيره كالحلويات والمعجنات وغيرها من أنواع السكاكر والمأكولات، فهذه كلها من الدلائل على صحة الإحياء بعد الموت «أَفَلا يَشْكُرُونَ» ٣٥ نفعا هذه عليهم واثباتنا لها
صفحة رقم 36
بالحجج والدلائل لإفناعهم على الإيمان بالإله الواحد والرسل والحياة الأخرى ووجود الجنة لمن أطاعنا والنار لمن عصانا، وهذا استفهام انكار لانكارهم وجحودهم واستقباح لعدم شكرهم نعم الله عليهم وكأنهم لم يكتفوا بهذه البراهين على ذلك «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها» من أصناف الحيوان والجماد والنّبات «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» ٣٦ مما لم يطلعهم الله على علمه ومعرفته ولم يتوصلوا لها بعد لعدم وقوفهم على عظيم قدرته وسعة ملكه وما عرفه الناس المادة الكهربائية الا عثورا، ومن يعش ير لأنا رأينا أشياء لم يرها أسلافنا ولم يحلموا بها، ولو ذكرت لهم لكذبوها فقد كذبوا حديث الدجال من أنه إذا ظهر يبلغ خبره المشرق والمغرب بيوم واحد، وها ان المذياع (الراديو) يسمع أخباره أهل المشرق والمغرب بلحظة واحدة، وسيرى أحفادنا ما لم نره نحن من عظيم مكونات الله التي
سيطلع عليها خلقه بأوقاتها المقدرة عنده، فسبحان من لا يحيط بعلمه غيره، ثم ذكر برهانا على إمكان الحياة الأخرى بقوله عظم قوله «وَآيَةٌ لَهُمُ» على قدرتنا باعادة الخلق كما بدأناه ليتيقن هؤلاء المنكرون عظمتنا وحجة ما جاءهم به رسلنا «اللَّيْلُ نَسْلَخُ» نكشط ونقشط ونكشف (ويأتى بمعنى السّرى والتنفس) «منه النّهار» فلا نبقي معه شيئا من ضوء الشمس مثل نزع القميص الأبيض عن الزنجي الأسود، لأن ما بين الأرض والسماء ظلمة فيكسو بعض ذلك الفضاء ضوء شمس فيكون كيت مظلم أسرج فيه سراج، فاذا انطفأ السراج أظلم البيت «فَإِذا هُمْ» أي جميع المخلوقات التي كساها ضوء الشمس «مُظْلِمُونَ» ٣٧ بعد انسلاخ النهار بظلام الكون في المحيط الموجودين فيه، وينصرف أيضا للقسم الآخر منه، إذ تكون الحال في موضع ليلا وفي آخر نهارا وفي موضع صبحا وفي غيره مساء، وفي قطر ضحى وآخر عصرا وهكذا، ثم ذكر آية ثالثة لهؤلاء المنكرين على الحياة الآخرة بقوله عز وجل «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» لمقدار تنتهي إليه في منازلها بالنظر لما نراه لأن سيرها محدود غايته المستقر الذي قدره الله لها وقد صرح إمام الحرمين وغيره بأن الشمس تطلع عند
قوم وتغرب عند آخرين فبآن واحد طالعة في مكان غائبة في غيره، فيطول الليل عند أناس ويقصر عند آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي أقصى بلاد البلغار قد يطلع الفجر قبل غياب الشفق، فلا وقت لصلاة العشاء عندهم إلا أنهم يقدرونه تقديرا بحسب الساعات، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية ولا تزال غاربة في البروج القبلية، فنصف السنة في ذلك المكان ليل ونصفها نهار وقامت الأدلة على عدم سكونها عند غروبها والا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على ان غروبها في أفق، طلوع في غيره وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها، أما ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر رضي الله عنه قال سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» قال مستقرها تحت العرش، فالمستقر اسم مكان، وظاهر الحديث الذي لا غبار عليه أن للشمس مستقرا أي قرارا حقيقيا، وقال النووي وجماعة من أهل العلم بظاهره أيضا لا سيما وأنه مروي عن أبي ذر وهو من عرفت مكانته وما هو عليه من الصدق والأمانة، والآية نصت على أن جريانها لمستقر لها أيضا، ولا يمكن التوفيق بين الآية والحديث وبين ما يقوله أهل الهيئة إلا إذا قلنا إن الشمس وسائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن هذا قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الآية الآتية ومثلها الآية ٣٤ من سورة الأنبياء في ج ٢ حيث لسند الفعل الى ضمير العقلاء مثله في قوله «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً» الآية ٤ من سورة يوسف في ج ٢ حيث جمعها جمع من يعقل أيضا، وما جاء في هذا الحديث في رواية أخرى وهي أن النبي ﷺ قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قال الله ورسوله أعلم. قال إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) - أخرجاه في الصحيحين- والمتبادر من الاستيذان
صفحة رقم 38
ما يكون بلسان القال دون لسان الحال كفيرها من الجمادات التي خاطبها الله تعالى ومكنها من الإجابة حسبما أراد، راجع تفسير الآية ٧٣ من سورة الأعراف المارة بما يتعلق بهذا البحث، هذا وما يقال أن الله جل شأنه خلق فيها الإدراك والتمييز حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها، بعيد غاية البعد ولا حاجة الى مثل هذا.
والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصيه كثرة. والعترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى ونجد (أي بقي) والمراد بها هنا (آل الرسول ورهطه وعشيرته) والبروج المار ذكرها بيناها في سورة البروج المارة فراجعها تر بعضها يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص، وبعضها يدل على ثبوته لها في العموم أو بالغاية، إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان، بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة.
مطلب في انسلاخ الأنفس:
اثبت الحكماء النفس للفلك، وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا كل ما في العالم العلوي والسفلي من الكواكب الأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حيّ ناطق، والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ من الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما تمثل جبريل عليه السلام وظهر لحضرة المصطفى وأصحابه بصورة دحية الكلبي أو بصورة بعض الأعراب كما جاء بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ فاسند ركبته إلى ركبتيه ودفع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال صدقت، فتعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربّنها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، ثمّ انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟
قلت: الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فقد ثبت في هذا الحديث أن جبريل جاء بصورة اعرابي، ثم تذهب تلك الصورة المنسلخة عن الجسد الظاهر حيث يشاء الله عز وجل، مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يصدر عن أصلها المنسلخ منها. ومن هذا القبيل ما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع، وبدنها الأصلي في موضع آخر وهذا من قبيل الكرامة التي يظهرها الله تعالى لهم وانا أشهد بهذا وأصدق وأنت أيها المنكر:
إذا لم تر إهلال فصدّق | لأناس رأوه بالأبصار |
لا تقل دارها بشرقي نجد | كل نجد للعامرية دار |
للولي، وان كل ما جاز وقوعه معجزة للنّبي جاز أن يكون كرامة للولي إلا إذا ثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل القرآن، والتحدّي به، لأن ذلك من خصائص الرسالة، فمن أنكر هاتين الخصلتين أو إحداهما خرج عن دينه ولو طار بالهواء لانه بادعاء إحداهما يكون مدعيا الرسالة ولا رسالة بعد خاتمها، تدبر، حفظك الله من الزيغ وغرور النفس والحسد، فإن كلا من هذه الثلاثة داع للانكار، راجع الآية ١٤٧ من سورة الأعراف المارة، وما ترشدك اليه، هذا وقد أثبت غير واحد خبر نقل النفس وتطورها لنبينا محمد ﷺ بعد وفاته وادعى أنه عليه الصلاة والسلام يرى في عدة مواضع في وقت واحد، مع كونه في قبره الشريف يصلي، وضح أن موسى عليه الصلاة السلام يصلي في قبره مع أن الرسول ﷺ رآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ليلة الإسراء كما بحث في تفسير أول الإسراء الآتية، وعليه فلا قيمة لما يقوله بعض من لا ثقة بعلمه ولا وثوق بذاته من إنكار هذه القضية البالغة من التواتر دون معارضته من أهل العلم العاملين، وما تعلل به من كون موسى عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي ﷺ عند قبره في الأرض مما لم يقل به أحد جزما، لأن القول به احتمال بعيد، بل لا بد أن يكون بصورة أخرى عنه، وقد رأى ﷺ ليلة أسري بروحه وجسده الى السماء جماعة من الأنبياء في السموات أيضا مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا من الأرض إلى السماء على قياس ما سمعت آنفا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس لواحدة أكثر من بدن واحد وحيّز واحد، بل هو أمر ممكن كما لا يخفى على من نور الله بصيرته، فعلى هذا لا يقال إن الشمس نفس مثل تلك الأنفس القدسية وانّها تنسلخ عن الجرم المشاهد مع بقاء سيرها وعدم سكونها حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم، ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي بالنسبة لكل قطر وانقطعت رؤية سكان المعمور في الأرض لها، ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه، لأن ما ذكرت من كون السجود
صفحة رقم 41
والسكون باعتبار النفس المنسلخة الممتثلة بما شاء الله، لا ينافي الجرم المعروف، بل لو كان السجود والسكون نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا بالنسبة لكل مدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر، إلا الذي يغلب على الظن ما يأتي بعد في تفسير قوله تعالى «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» وإذا علمت هذا تيقنت أن لا تعارض بين الحديث الصحيح المار ذكره في الشمس وبين كلام أهل الهيئة وما يقتضيه الحس أيضا والله أعلم اهو من روح المعاني وغيره بتصرف واختصار وتبسط «ذلِكَ» الجري البديع والمستقر الشان «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» ٤٨ به بحساب يكل النظر عن استخراجه وتتحير الافهام في استنباطه، لانه فعل الغالب بقدرته على هذا الجريان حسبما تفتضيه إرادته، فانظر رعاك الله في هذين الشخوص والهبوط المستمرين في الكون على المنوال المذكور في هذه الآية الكريمة، وتفكر هل كان أحد في عهد نزول
القرآن العظيم اطلع عليها وهل علمها أحد قبل إنشاء المراصد الفلكية واختراع المكبرات الرصدية غير صانع هذا الكون وبارئه على غير مثال سابق. وقد أخبرنا به المنزل عليه محمد ﷺ منذ أربعة عشر قرنا عن ربه عز وجل، ولا أبين من بيان الله في حق هذا القرآن الجليل، كيف لا وقد قال فيه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية ٩٠ من سورة النحل في ج ٢، قال تعالى «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» جمع منزلة والمراد بها المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهو لا يتعداها من أول ليلة إلى الثامن والعشرين ثم يستكن ليلة إذا كان تسعا وعشرين وليلتين إذا كان ثلاثين يوما.
مطلب منازل الكواكب وكيفية جريانها:
وقال أهل الهيئة إن المنازل سبعة وعشرون وثلث، وقد حذفوا الثلث لنقصه عن النصف كما هو مصطلح المنجمين. ويراد بالمنازل والله أعلم مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء الممطرة، وهي ثمان وعشرون منزلة:
١ الشرطان، ٢ البطين، ٣ الثريا، ٤ الدبران، ٥ الهقعة، ٦ الهنعة، ٧ الذراع، ٨ النثرة، ٩ الطرف، ١٠ الجبهة، ١١ الزّبرة، ١٢ الصرفة،
١٣ العوّا، ١٤ السماك، ١٥ الفقر، ١٦ لزّباني، ١٧ الإكليل، ١٨ القلب، ١٩ الشّوله، ٢٠ النعائم، ٢١ البلدة، ٢٢ سعد الذابح، ٢٣ سعد بلع، ٢٤ سعد السعود، ٢٥ سعد الأخبية، ٢٦ فرع الدلو المقدم، ٢٧ فرع الدلو المؤخر، ٢٨ الرشا.
ولكل منها معنى وتعريف خاص بها سنأتي على بيانه في تفسير الآية ١٥ من سورة الحجر في ج ٢ إن شاء الله إذ أننا أطلنا البحث هنا فيما يتعلق بانسلاخ الشمس الذي نشأ عنه الانسلاخ القوسي. هذا، واعلم أنه إذا كان القمر في آخر منازله رق وتقوس ولهذا أشار إليه تعالت إشارته بقوله «حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ» أحد شماريخ عذق النخل «الْقَدِيمِ» ٤٩ الذي مر عليه الحول، لأنه لشدّة يبسه يكون رفع من العرجون الحديث «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ» فتجتمع معه وتداخله في سلطانه ليلا، ولا يتمكن هو من الاجتماع معها ليشاركها في سلطانها نهارا «وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» أيضا بل يتعاقبان بنظام بديع وحساب معلوم لا يتغير ولا يخطىء، لأنه إذا أدرك أحدهما الآخر اختل نظام الكون وقامت القيامة، قال تعالى: (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) الآيات من ٨ إلى ١١ من سورة القيامة المارة، أي يقال هذا القول يوم القيامة الذي يحار الإنسان فيه ويذهل عن ذويه وخاصته «وَكُلٌّ» من الشمس والقمر وما ينشأ عنهما من الليل والنهار وما يرتبط بسيرهما من الكواكب «فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ٤٠ يسيرون، وكررت هذه الجملة في الآية ٣٣ من سورة الأنبياء في ج ٢، بما يدل على أن سير هذه كلها مقطوع بها حتما لا سبيل لانخرامه، تدبر، وفيها إشارة إلى أنها كلها عائمة بالهواء في الفضاء ليست مرتكزة على شيء ولا متعلقة بشيء كجريان السمك بالماء لجواز أن تكون السماء كلها لطيفه أو مجرى الكواكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه يجري به كما تجري السمكة الكبيرة أو الصغيرة في البحر أو في النهر أو في ساقية منه.
أما ما يقوله الفلاسفة بانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لقعر فلك القمر وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة