آيات من القرآن الكريم

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ
ﭮﭯ ﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

القرآن والرسول والمرسل إليهم
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
الإعراب:
يس إما بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هذه يس، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث، وقرئ بالنصب على معنى: اتل يس، وإما بالفتح كأين وكيف، وقرئ بالكسر مثل: جير لإسكان الياء وكسر ما قبلها. ومنهم من أظهر النون، ومنهم من أدغمها في الواو، فمن أظهرها فلأن حروف الهجاء من حقها أن يوقف عليها، كالعدد، ولذلك لم تعرب، ومن أدغمها أجراها مجرى المتصل، والإظهار أقيس.
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في موضع رفع خبر (إن) وعَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما في موضع رفع خبر بعد خبر (إن) وإما في موضع نصب متعلق ب الْمُرْسَلِينَ.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ منصوب على المصدر، مصدر (نزّل) وهو مضاف إلى الفاعل،

صفحة رقم 290

ويقرأ بالرفع على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره: هو تنزيل، ويقرأ أيضا بالجر على البدل من القرآن.
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قَوْماً: إما نافية، وإما مصدرية في موضع نصب، تقديره: لتنذر قوما إنذارا مثل إنذارنا آباءهم، ممن كانوا في زمان إبراهيم وإسماعيل.
وَآثارَهُمْ هي السنن التي سنّوها، فيه محذوف تقديره: سنكتب ذكر ما قدموا وذكر آثارهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كُلَّ منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَحْصَيْناهُ أي أحصينا كل شيء أحصيناه.
البلاغة:
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ في كل منهما تأكيد بأكثر من مؤكد وهو (إن) واللام لأن المخاطب منكر، وهذا التأكيد يسمى إنكاريا.
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا استعارة تمثيلية، شبه حال الكفار في امتناعهم عن الإيمان بمن غلّت يده إلى عنقه بالقيود، فصار مرفوع الرأس خافض البصر، لا يستطيع فعل شيء ولا الالتفات إلى غيره. وكذلك شبه حالهم بمن وجد بين سدّين لا يستطيع النفاذ والاهتداء لطريقه.
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بينهما طباق.
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ بينهما طباق السلب.
نَحْنُ نُحْيِ جناس ناقص لتغير الحروف.
المفردات اللغوية:
يس تقرأ: يا، س بمد الياء، وإظهار النون الساكنة، أو بإدغام نون السين في الواو التي بعدها، إلخ ما ذكر في الحاشية، والمراد من هذه الحروف المقطعة الهجائية كما سبق بيانه التنبيه، مثل ألا ويا، والإشارة إلى العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف تتركب منها لغتهم وكلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ حجة عليهم. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الواو: واو القسم، يقسم الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني، أو بذي الحكمة، على أن محمدا رسول من عند الله، لئلا يشك أحد في كونه مرسلا. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي الأنبياء المرسلين إلى قومهم وغيرهم، والتأكيد بالقسم واللام للرد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: لست مرسلا. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي الطريق القويم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل هو الموصل إلى المطلوب، في العقيدة والشريعة، في التوحيد والاستقامة في الأمور.

صفحة رقم 291

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي إن القرآن تنزيل منزل من العزيز الغالب في ملكه، الرحيم بخلقه. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ اللام متعلق ب تَنْزِيلَ، والمعنى أرسلناك بهذا التنزيل لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم الأقربون، في زمن الفترة، أو لتطاول مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. غافِلُونَ أي إن القوم العرب غافلون عن الإيمان والرشد، وعن الشرائع والأحكام.
حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ وجب الحكم بالعذاب على أكثر أهل مكة: وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون بالقرآن.
أَغْلالًا جمع غلّ: وهو ما تجمع به اليد إلى العنق للتعذيب. فَهِيَ الأيدي مجموعة.
إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن: وهي مجتمع اللّحيين. مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، غاضون أبصارهم في عدم التفاتهم إلى الحق. وهذا تمثيل، يراد به أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون نفوسهم له. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أمامهم، والمراد: منعناهم عن الإيمان بموانع هي استكبارهم وعتوهم وعنادهم عن قبول الحق والخضوع له. فَأَغْشَيْناهُمْ غطينا أبصارهم. فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار سبيل الهدى، إنهم عموا عن البعث، وعن قبول الشرائع الإلهية. وهذا تمثيل أيضا لسد طريق الإيمان عليهم لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه. والعلم: مجرد معرفة مسبقة لا يمنع الإنسان عقلا وواقعا من الإيمان لأنه غير معروف له.
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، بسبب العتو والاستكبار. إِنَّما تُنْذِرُ ينفع إنذارك. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي اتبع القرآن، وخاف عقاب الله في السر والعلن، وإن لم يره، والغيب: أي قبل معاينة أهواله. وَأَجْرٍ كَرِيمٍ هو الجنة.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى نبعثهم بعد الموت. وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نكتب في اللوح المحفوظ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كالعلم والكتاب والمسجد والمشفى والمدرسة، أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي كل شيء من أعمال العباد وغيرها ضبطناه في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ:
أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:

صفحة رقم 292

كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
نزول الآية (٨) :
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله: لا يُبْصِرُونَ فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
نزول الآية (١٢) :
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى:
أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النّقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا». وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم».
التفسير والبيان:
يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي

صفحة رقم 293

أقسم بالقرآن ذي الحكمة البالغة، المحكم بنظمه ومعناه بأنك يا محمد لرسول من عند الله على منهج سليم، ودين قويم، وشرع مستقيم لا عوج فيه.
وفي هذا إشارة إلى أن القرآن هو المعجزة الباقية، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، صادق في نبوته، ومرسل برسالة دائمة من عند ربه.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي هذا القرآن والدين والصراط الذي جئت به تنزيل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى ٤٢/ ٥٢- ٥٣].
وهذا دليل واضح على مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن.
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ أي أرسلناك أيها النبي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول نذير من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والنور والشرائع التي تسعد البشر في الدارين.
لكنّ ذكرهم وحدهم هنا للعناية بهم وتوجيه الخطاب لهم: لا ينفي كونه مرسلا إلى الناس كافة، بدليل الآيات والأحاديث المتواترة المعروفة في عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم، مثل قوله تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة، وهو ما سجّل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر، ويصرون عليه طوال حياتهم.

صفحة رقم 294

والمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلي، وهو سبق علم الله بنهاياتهم، لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر، وفي هذا تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يجزع ولا يأسف على عدم إيمانهم به.
ثم ضرب الله تعالى مثلا لتصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى إيمانهم، فقال:
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود، تمنعهم من فعل شيء، فصاروا مرفوعي الرؤوس خافضي الأبصار. وهذا يعني أن الله جعلهم كالمغلولين المقمحين (الرافعي رؤوسهم الغاضي أبصارهم) في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يوجهون أنظارهم نحوه، وهم أيضا كالقائمين بين سدين، لا يبصرون أمامهم ولا خلفهم، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله، كما قال:
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي تأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كمن أحاط به سدان من الأمام والخلف، فمنعاه من النظر، فهو لا يبصر شيئا، وهؤلاء لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه لأنا غطينا أبصارهم عن الحق.
وهذا مثل صائب لأهل الجهالة والتخلف والبدائية الذين حجبوا مداركهم وأبصارهم عن التأمل في معطيات المدنية والتقدم والحضارة، وهو تمثيل رائع للسد الإلهي المعنوي بالسد الحاجز المادي الحسي.
ونتيجة لما سبق:
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إن إنذارك لهؤلاء المصرين على كفرهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، ما داموا غير مستعدين

صفحة رقم 295

لقبول الحق، والخضوع لنداء الله، والنظر في الدلائل الدالة على صدق رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتأمل في عجائب الكون المشاهدة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته.
أما نفع الإنذار، فهو كما ذكر تعالى:
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه ومعاينة أهواله، أو خشوا الله قبل رؤيته، فهؤلاء بشرهم بمغفرة لذنوبهم، ورضوان من الله، وأجر كريم ونعيم مقيم هو الجنة. ونظير الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك ٦٧/ ١٢].
ثم أكد الله تعالى حصول الجزاء للمؤمنين وغيرهم، فقال:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي إننا قادرون فعلا على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين ندوّن لهم كل ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء، وتركوا من أثر طيب أو خبيث، أي نكتب ونسجل أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها وخلفوها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن عمل على نشر الفضيلة جوزي بها، ومن عمد إلى نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة يحاسب عليها.
وهذا
كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي-: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».

صفحة رقم 296

وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده».
ثم ذكر تعالى أن كتابة الآثار لا تقتصر على الناس، وإنما تتناول جميع الأشياء، فقال:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي لقد ضبطنا وأحصينا كل شيء من أعمال العباد وغيرهم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي سجّل فيه جميع ما يتعلق بالكائنات، كما قال تعالى: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه ٢٠/ ٥٢] وقال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر ٥٤/ ٥٢- ٥٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- القرآن الكريم معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وهو تنزيل من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
٢- الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، على منهج وطريق ودين مستقيم هو الإسلام.
٣- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العرب خاصة وإلى الناس كافة، فلم يبق بعدها عذر لمعتذر.
٤- إن رؤوس الكفر والطغيان والعناد من أهل مكة أو العرب استحقوا الخلود في نار جهنم والعذاب الدائم فيها لأنهم أصروا على الكفر، وأعرضوا عن النظر في آيات الله، والتأمل في مشاهد الكون، وقد علم الله في علمه الأزلي

صفحة رقم 297
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية