
وَالْأَجْرُ: الثَّوَابُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ، وَوَصْفُهُ بِالْكَرِيمِ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي نَوْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
وَالتَّعْبِيرُ بِوَصْفِ الرَّحْمنَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنكرُونَ اسْم الرحمان، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠]. وَالثَّانِي:
الْإِشَارَة إِلَى أَن رَحْمَتِهِ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ خَشْيَتِهِ فَالْمُؤْمِنُ يَخْشَى اللَّهَ مَعَ عِلْمِهِ بِرَحْمَتِهِ فَهُوَ يَرْجُو الرَّحْمَةَ.
فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَهُوَ قَصْرُ الْإِنْذَارِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ اللَّهَ هُوَ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي تُؤُوِّلَ بِهِ مَعْنَى فِعْلِ تُنْذِرُ، أَيْ حُصُولُ فَائِدَةِ الْإِنْذَارِ يَكُونُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا إِبْقَاءَ فِعْلِ تُنْذِرُ عَلَى ظَاهِرِ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِ مَصَادِرِهَا فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتْبِعُوا الذِّكْرَ وَلَمْ يَخْشَوْا مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْإِنْذَارِ فِي انْتِفَاء فَائِدَته.
[١٢]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
لَمَّا اقْتَضَى الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس:
١١] نُفِيَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْإِنْذَارُ بِالَّذِينِ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ وَلم يخشوا الرحمان، وَكَانَ فِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ تَعْرِيضِيَّةٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالْإِنْذَارِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا يَنْفَعُ كُلَّ عَاقِلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذَرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَكَمَا قَالَ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠] اسْتُطْرِدَ عَقِبَ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّصِ إِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ فَإِنَّ التَّوْفِيقَ الَّذِي حَفَّ بِمَنِ اتَّبَعَ الذّكر وخشي الرحمان هُوَ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ حَالَةَ الشِّرْكِ حَالَةُ ضَلَالٍ يُشْبِهُ الْمَوْتَ، وَالْإِخْرَاجَ مِنْهُ كَإِحْيَاءِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الْآيَةُ اشْتَمَلَتْ بِصَرِيحِهَا عَلَى عِلْمٍ بِتَحْقِيقِ الْبَعْثِ وَاشْتَمَلَتْ بِتَعْرِيضِهَا عَلَى رَمْزٍ وَاسْتِعَارَتَيْنِ ضِمْنِيَّتَيْنِ: اسْتِعَارَةِ الْمَوْتَى لِلْمُشْرِكِينَ، وَاسْتِعَارَةِ الْأَحْيَاءِ لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْقَرِينَةُ هِيَ الِانْتِقَالُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَام لما يومىء إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبْقِ الْحُضُورِ فِي الْمُخَيِّلَةِ فَيَشْمَلُ الْمُتَكَلِّمَ مِمَّا كَانَ يُتَكَلَّمُ فِي شَأْنِهِ إِلَى الْكَلَامِ فِيمَا خَطَرَ لَهُ. وَهَذِه الدّلَالَة مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ

الْمَقَامِ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى التَّرْكِيبِ. وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ التَّخَلُّصِ بِحَرْفٍ (إِنَّ) لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ تَحْتَاجُ إِلَى فِطْنَةٍ، وَهَذَا مَقَامُ خِطَابِ الذَّكِيِّ الْمَذْكُورِ فِي مُقَدِّمَةِ عِلْمِ الْمَعَانِي.
فَيَكُونُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ «إِنَّا نُحْيِي الْمَوْتَى» اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِقَصْدِ إِنْذَارِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا الذِّكْرَ، وَلم يخشوا الرحمان، وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَضَاهُمْ جَانِبُ النَّفْيِ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْيَاءُ مُسْتَعَارًا لِلْإِنْقَاذِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَوْتَى: اسْتِعَارَة لأهل الشُّكْر، فَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى تَوْفِيقُ مَنْ آمَنَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَام: ١٢٢] الْآيَةَ.
فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ امْتِنَانًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَيْسِيرِ الْإِيمَانِ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الْأَنْعَام: ١٢٥]، وموقع الْجُمْلَة موقع التَّعْلِيل لِقَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١].
وَالْمُرَادُ بِكِتَابَةِ مَا قَدَّمُوا الْكِنَايَةَ عَنِ الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَالثَّوَابِ عَلَى آثَارِهِمْ.
وَهَذَا الِاعْتِبَار يُنَاسِبه الِاسْتِئْنَافَ الِابْتِدَائِيَّ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ بِابْتِدَاءِ كَلَامٍ مُنَبِّهًا السَّامِعَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي مَطَاوِي كَلَامِهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ) مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى معنى الصَّرِيحِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ، ونَحْنُ ضَمِيرُ فَصْلٍ لِلتَّقْوِيَةِ وَهُوَ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ. وَالْمَعْنَى: نُحْيِيهِمْ لِلْجَزَاءِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا، أَيْ نُحْصِي لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ قَدَّمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِنُجَازِيَهِمْ.
وَعَطْفُ ذَلِكَ إِدْمَاجٌ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ بِأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَمُجَازَوْنَ عَلَيْهَا.
وَالْكِنَايَةُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْصَاءِ وَعَدَمِ إِفْلَاتِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ إِغْفَالِهِ. وَهِيَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِصَحَائِفِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُسَجِّلُهَا الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ.

فَالْمُرَادُ بِ مَا قَدَّمُوا مَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ شُبِّهَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَشْيَاءَ يُقَدِّمُونَهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا يُقَدِّمُ الْمُسَافِرُ ثِقْلَهُ وَأَحْمَالَهُ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَهِيَ آثَارُ الْأَعْمَالِ وَلَيْسَتْ عَيْنَ الْأَعْمَالِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِ مَا قَدَّمُوا مِثْلِ مَا يَتْرُكُونَ مِنْ خير أَو يثير بَيْنَ النَّاسِ وَفِي النُّفُوسِ.
وَالْمَقْصُودُ بذلك مَا عملوه مُوَافِقًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا وَآثَارَهُمْ كَذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا»
. فَالْآثَارُ مُسَبَّبَاتُ أَسْبَابٍ عَمِلُوا بِهَا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ كِتَابَةَ كُلِّ مَا عَمِلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ. فَهَذَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ كُلٌّ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِنْهُ.
وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: الْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ» مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
. وَيَعْنِي آثَارَ أَرْجُلِهِمْ فِي الْمَشْيِ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ زَادَ: أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فَجَعَلَ الْآثَارَ عَامًّا لِلْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهَذَا يُلَاقِي الْوَجْهَ الثَّانِي فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى
. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا أَسَّسْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَتَوَهَّمَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَسِيَاقُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ وَمَكِّيَّتُهَا تُنَافِيهِ.
وَالْإِحْصَاءُ: حَقِيقَتُهُ الْعَدُّ وَالْحِسَابُ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالضَّبْطِ وَعَدَمِ تَخَلُّفِ شَيْءٍ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّعْيِينِ لِأَنَّ الْإِحْصَاءَ وَالْحِسَابَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَفُوتَ وَاحِدٌ مِنَ الْمَحْسُوبَاتِ.
وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الِاقْتِدَاء وَيعْمل عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ: