
وإيتاء الزكاة في السر والعلن، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابا من ربهم كفاء أعمالهم، بل أضعاف ذلك فضلا من ربهم ورحمة، ويطمعون في غفران زلاتهم لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل.
الإيضاح
إن الذين يتبعون كتاب الله ويعملون بما فرض فيه من فرائض فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرا وعلانية بلا بسط ولا إسراف- هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربخ تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه، ويبتغون فضلا منه ورحمة فوق ذلك، وغفرانا لما فرط من زلاتهم، وما اجترحوا من سيئاتهم، فالله هو الغفور لما فرّط من المطيعين من الزلات، الشكور لطاعاتهم، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى.
ونحو الآية قوله: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ».
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)

تفسير المفردات
الكتاب: هو القرآن، مصدقا لما بين يديه: أي لما تقدمه من الكتب السماوية، خبير بصير: أي محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، مقتصد: أي عامل به تارة، ومخالف له أخرى، سابق: أي متقدم إلى ثواب الله راج دخول جنته، بالخيرات:
أي بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة، بإذن الله: أي بتوفيقه وتيسيره، والحزن: هو الخوف من محذور يقع في المستقبل، دار المقامة: أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهى الجنة، نصب: أي تعب، ولغوب: أي كلال وفتور.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم أجرهم- أكد هذا وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق، وهو مصدق لما بين يديه من الكتب، فتاليه مستحق لهذا الأجر والثواب، ثم قسم هؤلاء الذين أورثوا الكتاب أقساما ثلاثة: ظالم لنفسه ومقتصد، وسابق بالخيرات، ثم ذكر جزاء هؤلاء السابقين، وأنهم يدخلون جنات تجرى من تحتها الأنهار وأنهم يحلّون فيها أساور الذهب واللؤلؤ، ويلبسون الحرير، ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور، ويقولون:
إنه أحلنا دارا لا نصب فيها ولا تعب.
الإيضاح
(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك هو الحق من ربك، وعليك وعلى أمتك أن تعمل به وتتبع ما فيه، دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله فصار إماما لها (إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إن الله خبير بأحوال عباده، بصير بما يصلح

لهم، فيشرع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة التي هى خير الأمم بشهادة الكتاب «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وجعلناهم أقساما ثلاثة:
(١) ظالم لنفسه، مفرّط فعل بعض الواجبات، مرتكب لبعض المحرمات.
(٢) مقتصد مؤدّ للواجبات، تارك للمحرمات، تقع منه تارة بعض الهفوات، وحينا يترك بعض المستحسنات.
(٣) سابق بالخيرات بإذن الله، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
والخلاصة- إن الأمة في العمل أقسام ثلاثة: مقصّر في العمل بالكتاب مسرف على نفسه. ومتردد بين العمل به ومخالفته. ومتقدم إلى ثواب الله بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير الله وتوفيقه.
وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته.
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من الله لا يقدر قدره.
وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين بيّن جزاءهم ومآلهم بقوله:
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلئ ويكون لباسهم حريرا