
٤- كل إنسان في الآخرة مشغول بنفسه، فلا يستطيع أن يتحمّل شيئا من آثام غيره، ولو كان أقرب الناس لديه، كالأب والابن وغيرهما.
٥- إنما يقبل إنذار النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنذارات القرآن الكريم: من يخشى عقاب الله تعالى في السرّ والعلن وقبل معاينة العذاب، كما قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس ٣٦/ ١١].
٦- من تطهر من أدناس المعاصي فإنما يتطهر لنفسه، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وتظهر الفائدة في الآخرة إذ إلى الله مرجع جميع الخلق، فيحاسبهم على ما فعلوا.
مثل المؤمن والكافر وإرسال الرسل في الأمم
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
البلاغة:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الظُّلُماتُ والنُّورُ الظِّلُّ والْحَرُورُ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ بين كل طباق.

وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ استعارة تصريحية، استعار المشبه به وهو الأعمى للكافر، لعدم الاهتداء إلى الطريق الصحيح، واستعار البصير للمؤمن لاهتدائه إلى منهج الاستقامة ووضوح الطريق أمامه.
وزيادة لَا في الآيات [٢٠- ٢٢] في المواضع الثلاثة للتأكيد.
نَذِيرٌ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ توافق الفواصل ذو التأثير في جمال الكلام والوقع على النفس.
المفردات اللغوية:
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الأول: فاقد البصر، والثاني له ملكة البصر، والمراد تشبيه الكافر بالأعمى، وتشبيه المؤمن بالبصير. الظُّلُماتُ والنُّورُ شبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق بالنور. الظِّلُّ والْحَرُورُ أراد بالظل الجنة وأراد بالحرور النار. والْحَرُورُ السموم، إلا أن السموم بالنهار، والحرور بالليل والنهار. الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ شبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ هدايته، فيجيب بالإيمان. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي الكفار، شبههم بالموتى الذين لا يجيبون.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر لهم، أو ما عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الإسماع فليس إليك، ولا قدرة لك عليه لأن الهدى والضلالة بيد الله عز وجل. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق، وهو الهدى، فيشمل المرسل والمرسل، فكلاهما محق. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا من أجابك بالجنة، ومنذرا من لم يجبك بالنار. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أو أهل عصر. إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ سلف ومضى فيها منذر مخوف من نبي أو عالم ينذر عنه، واكتفى بالنذير لأن الإنذار قرين البشارة، سيما وقد قرن به من قبل، أو لأن الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن يكذبك أهل مكة فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم. بِالْبَيِّناتِ المعجزات الدالة على صدقهم في نبوتهم. وَبِالزُّبُرِ أي الكتب المكتوبة، كصحف إبراهيم، جمع زبور: أي كتاب، والكتاب: ما فيه شرائع وأحكام. أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بتكذيبهم. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك.
المناسبة:
بعد بيان طريق الهدى وطريق الضلالة، واهتداء المؤمن الذي يخاف ربه،

وجحود الكافر المعاند، ضرب الله تعالى الأمثال للكافر والمؤمن، وللباطل والحق، وللجنة والنار، وللمؤمنين والكافرين، وعدّد الأمثلة، للتعريف بأن المؤمن بصير الطريق، والكافر أعمى الطريق، وأن الإيمان نور فلا يخفى على المؤمن، والكفر ظلمة فيزيد الأعمى حيرة، ثم ذكر مآلهما ومرجعهما، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم جعل الكافر أسوأ حالا من الأعمى فشبهه بالميت لأنه غير مدرك إدراكا نافعا، فهو كالميت، أما الأعمى فقد يدرك شيئا ما كالبصير. ثم أوضح تعالى أن الهداية بيده يمنحها من يشاء، ولكنه لم يترك سبيلا لأحد بالاعتذار، فقد أرسل الرسل والأنبياء في كل أمة من الأمم، فمن آمن نجا، ومن عصى عذب في النار.
التفسير والبيان:
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وللكافرين، فكما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة في حقيقتها وفائدتها، كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله، والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد فاتبعه وانقاد له، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور الإيمان، أو الباطل والحق، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار.
فالمؤمن سميع بصير يمشي في نور على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال الوارفة والعيون المتدفقة، والكافر أصم أعمى يمشي في ظلمات لا خروج له منها، بل يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى ينتهي به الأمر إلى الحرور والسموم والحميم.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي ولا يتساوى المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر، والكافرون أموات القلوب والحواس.

فهذه أمثال للمؤمن والإيمان والعاقبة، والكافر والكفر والمصير، كما قال تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟! [هود ١١/ ٢٤] وقال عز وجل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام ٦/ ١٢٢]. قال قتادة: هذه كلها أمثال أي كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.
ثم بيّن تعالى مصدر الهداية، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها، وكما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم، وهم كفار، بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا تستطيع أيها النبي هدايتهم لأن الكفر أمات قلوبهم.
وأما مهمة الرسول فهي:
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا رسول منذر عذاب الله، ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ، أما الهدى والضلالة فهي بيد الله عز وجل.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً أي أرسلناك أيها الرسول إرسالا مصحوبا بالحق، والمرسل محق، وكذا المرسل محق، مبشرا المؤمنين أهل الطاعة بالجنة، ومنذرا الكافرين أهل المعصية بالنار.
والإرسال منهج عام في البشرية، فقال تعالى:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي ما من أمة من بني آدم سبقت إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل ١٦/ ٣٦].

ثم سلّى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه وتكذيبهم وإعراضهم عن دعوته، فقال:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي وإن يكذبك أيها الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية من قبلهم أنبياءهم، جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة، وبالكتب المكتوبة كصحف إبراهيم، وبالكتاب الواضح البيّن، كالتوراة والإنجيل. وكرر الزبر والكتاب، وهما واحد، لاختلاف اللفظين.
ثم هدد مخالفيه وأوعدهم بالعقاب، فقال:
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ومع كل هذه الأدلة كذب أولئك رسلهم فيما جاءوهم به، فأخذتهم بالعقاب والنكال، فكيف رأيت إنكاري عليهم شديدا بليغا؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- لا مساواة بين الكافر والمؤمن والجاهل والعالم، ولا بين الكفر والإيمان أو الحق والباطل، ولا بين الثواب والعقاب أو الجنة والنار، ولا بين العقلاء والجهال أو أحياء القلوب وأموات القلوب.
٢- إن الله يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته، ويهدي أحباءه لطاعته، ولن يستطيع النبي إسماع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم أي كما لا يسمع من مات، كذلك لا يسمع من مات قلبه. والمراد بالآية: أن الكفار الذين حجبوا نور الهداية عن قلوبهم هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.