آيات من القرآن الكريم

إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ
ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ

لعجزهم عن الأفعال بالمرة، هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم السّلام أو نحوهم من المقربين فعدم الاستجابة القولية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الإلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه، وعدم الاستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضا ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم، وقيل لأنهم يرون ذلك نقصا في العبودية والخضوع لله عزّ وجلّ.
ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأول أيضا فتأمل وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ فضلا عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم، وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر الله تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال، ومن هذا القبيل قول ذي الرمة:

وقفت على ربع لمية ناطق يخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر، وقد حكى الله تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: ٤٠، ٤١] وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر خبيرا أخبرك به يعني به تعالى نفسه كما روي عن قتادة وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائنا من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الإلهية.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل: ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسها بأنها ليست بآلهة، وفيه من البعد ما فيه.

صفحة رقم 355

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر مهم أو خطب ملم، وتعريف الْفُقَراءُ للجنس أو للاستغراق إذ لا عهد، وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: ٢٨] ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليبا على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس، والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه، وقال صاحب الفرائد: الوجه أن يقال والله تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي العلم على غيرهم، وهو بعيد جدا.
وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذي خوطبوا في قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه عزّ وجلّ ولا يخلو عن حسن وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء لا غيره الْحَمِيدُ المنعم على جميع الموجودات المستحق بإنعامه سبحانه للحمد، وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ومثله مستحق للحمد، وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي:

حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب
ويدخل في عموم المستغني عنه المخاطبون وعبادتهم، وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه أنتم والأولى التعميم.
وما روي في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي صلّى الله عليه وسلم الدعاء وكثر الإصرار من الكفار قالوا لعل الله تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئا من التخصيص في الآية كما لا يخفى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والإتيان بخلق جديد يذهبكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده. وهذا إذا كان الخطاب خاصا، وتفسير الجديد بما سمعت مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأيا ما كان فالجملة تقرير لاستغنائه عزّ وجلّ وَما ذلِكَ أي ما ذكر من إذهابهم والإتيان بخلق جديد عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطرز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان. وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى أي إثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها.

صفحة رقم 356

ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣] فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم، ولا ينافيه قوله سبحانه: مَعَ أَثْقالِهِمْ لأن المراد بأثقالهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي نفس أثقلتها الأوزار إِلى حِمْلِها الذي أثقلها ووزرها الذي بهظها ليحمل شيء منه ويخفف عنها، وقيل: أي إلى حمل حملها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تجب بحمل شيء منه، والظاهر أن وَلا تَزِرُ إلخ نفي للحمل الاختياري تكرما من نفس الحامل ردا لقول المضلين وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ويؤيده سبب النزول فقد روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلم وعلي وزركم فنزلت.
وهذا نفي للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون اختيارا أو جبرا وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والاستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها، وكذا الحامل أعم من أن يكون وازرا أم لا، وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهرا، وقد يقال مع ذلك: إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه، وفي الثاني نفي التخفيف فلا اتخاذ بين مضموني الجملتين كما لا يخفى، وقيل في الفرق بينهما: إن الأول نفي الحمل إجبارا والثاني نفي له اختيارا، وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحدا لا يحمل منه شيئا، وأيضا حق نفي الإجبار أن يتعرض له بعد نفي الاختيار، وقيل: إن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئا دلت على عدله تعالى الكامل، والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضا وهما المقصودان من الآيتين فالفرق باعتبار ذلك، ولعل ما ذكرناه أولا أولى، وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها: لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل، الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال: ولا تحمل نفس حمل أخرى، وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما اقترفوه من الأوزار لا بما اقترفه غيرهم، الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحمل على ما في النهاية الأثيرية حيث قال: يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يزر وجوابه أنه من باب التجريد، الثالث أن وازِرَةٌ يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره؟ وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيدا فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن شيء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفا بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة استفادة العموم إذا أورد اسم الفاعل نكرة في حيز نفي، وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى جدا انتهى.
وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم، وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهما معا ما لا يخفى من الفائدة، وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله، وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله، ونحوه في البحر، وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل، وأصل الحمل ما كان على الظهر من

صفحة رقم 357

ثقيل فاستعير للمعاني من الذنوب والآثام، وقرأ أبو السمال عن طلحة وإبراهيم عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفسا إلى حملها لم تحمل منه شيئا وَلَوْ كانَ أي المدعو المفهوم من الدعوة ذا قُرْبى ذا قرابة من الداعي، وقال ابن عطية: اسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو، والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظاهر عود الضمير عليه وتأنيثه.
وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى: مُثْقَلَةٌ لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفي ما فيه. وقرىء ولو كان «ذو قربى» بالرفع، وخرج على أن كانَ ناقصة أيضا و «ذو قربى» اسمها والخبر محذوف أي ولو كان ذو قربى مدعوا، وجوز أن تكون تامة. وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا، ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل مدعوها شيئا ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن، وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفى عليه أمر الانتظام إِنَّما تُنْذِرُ إلخ استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائبا عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد، ونكتة اختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فتذكر ما في العهد من قدم.
وَمَنْ تَزَكَّى تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما.
وقرأ العباس عن أبي عمرو «ومن يزكي فإنما يزكي» بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في يذكرون، وقرأ ابن مسعود وطلحة «ومن أزكى» بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء، وطلحة أيضا «فإنما تزكى» بإدغام التاء في الزاي وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لا إلى أحد غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ عطف على قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ والأعمى والبصير مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدي وغيرهما.
وقيل: هما مثلان للصنم ولله عزّ وجلّ فهو من تتمة قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ والمعنى لا يستوي الله تعالى مع ما عبدتم وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ أي ولا الباطل ولا الحق وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ولا الثواب ولا العقاب، وقيل: ولا الجنة ولا النار، والحرور فعول من الحر وأطلق كما حكي عن الفراء على شدة الحر ليلا أو نهارا، وقال أبو البقاء: هو شدة حر الشمس، وفي الكشاف الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار، وقيل: بالليل وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة والكافرين الذين أصروا واستكبروا فالتعريف كما قال الطيبي للعهد، وقيل: للعلماء والجهلاء.
والثعالبي جعل الأعمى والبصير مثلين لهما وليس بذاك إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي يسمعه ويجعله مدركا

صفحة رقم 358

للأصوات، وقال الخفاجي وغيره: ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عزّ وجلّ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم، والباء مزيدة للتأكيد أي وما أنت مسمع، والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه، ولا يأبى إرادة السماع المعروف ما ورد في حديث القليب لأن المراد نفي الأسماع بطريق العادة وما في الحديث من باب وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧] وإلى هذا ذهب البعض، وقد مر الكلام في ذلك فلا تغفل.
وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعا بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقيا ثانيا وأردف قوله سبحانه: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتمهيد لقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ولهذا كرر وَما يَسْتَوِي وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما، وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الظلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلا وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات.
وزعم ابن عطية أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل: ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات وهكذا فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الكلام على متروكه، والقول بأنها مزيدة لتأكيد النفي يغني عن اعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه.
وقال الإمام: كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف، وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد قد يكون حيا ثم يعرض له الموت لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الإلهية، وقيل لم تكرر قيل وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد، وقيل كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلا لتوهم نفي الاستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور، وفي الأخير للإعتناء وإدخال (لا) على المتقابلين لتذكير نفي الاستواء، وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان، ولنحو هذا قدم الظلمات على النور فإن الباطل كان موجودا فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة والسلام، ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ إلخ ووجود المصرين بوصف الإصرار بعد وجود المؤمنين، وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق وفي

صفحة رقم 359

الأخير لأن المراد بالأموات. فاقدو الحياة بعد الاتصاف بها كما يشعر به أرداف ذلك بقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ فيكون للحياة مع أنها وجودية رتبة السبق أيضا، وقيل إن تقديم غير الأشرف مع انفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف:

فالنار يعلوها الدخان وربما يعلو الغبار عمائم الفرسان
وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق، وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده، وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة وهو على الذوق السليم دون البصير، فتدبر جميع ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير.
وقرأ الأشهب والحسن «بمسمع من» بالإضافة إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن أراد الله تعالى هدايته سمع واهتدى وإن كان ممن أراد سبحانه ضلاله وطبع على قلبه فما عليك منه تبعة إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي محقين على أنه حال من الفاعل أو محقا على أنه حال من المفعول أو إرسالا مصحوبا بالحق على أنه صفة لمصدر محذوف، وجوز الزمخشري تعلقه بقوله سبحانه: بَشِيراً ومتعلق قوله تعالى:
وَنَذِيراً محذوف لدلالة المقابل على مقابله أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق.
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر وأمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية إِلَّا خَلا مضى فِيها نَذِيرٌ من نبي أو عالم ينذرها، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قريبة البشارة لا سيما وقد اقترنا آنفا مع أن الإنذار أنسب بالمقام، وقيل خص النذير بالذكر لأن البشارة لا تكون إلا بالسمع فهو من خصائص الأنبياء عليهم السّلام فالبشير نبي أو ناقل عنه بخلاف النذارة فإنه تكون سمعا وعقلا فلذا وجه النذير في كل أمة، وفيه بحث.
واستدل بعض الناس بهذه الآية مع قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: ٣٨] على في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرون، والاستدلال بذلك باطل لا يكاد نفي بطلانه على أحد حتى على البهائم، ولم نسمع القول بنبوة فرد من البهائم ونحوها إلا عن الشيخ محيي الدين ومن تابعه قدس الله سره، ورأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر والعياذ بالله تعالى.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك.
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ في موضع الحال على ما قال أبو البقاء إما بدون تقدير قد أو بتقديرها أي كذب الذين من قبلهم وقد جاءتهم رسلهم بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم فيما يدعون وَبِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم عليه السّلام وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل يعني أن بعضهم جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا لا على إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب وعدد الرسل أكثر بكثير من عدد الكتب كما هو معروف، ومال هذا إلى منع الخلو، ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد والعطف لتغاير العنوانين لكن فيه بعد ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع ضميرهم لذمهم بما حيز الصلة والأشعار بعلة الأخذ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بالعقوبة، وفيه مزيد تشديد وتهويل وقد تقدم الكلام في نظير هذا في سبأ فتذكر.
وفي الآية من تسليته صلّى الله عليه وسلم ما فيها أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً إلخ استئناف مسوق على ما يخطر

صفحة رقم 360

بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ من عظيم قدرته عزّ وجلّ، وقال الشيخ الإسلام: هو لتقرير ما قبله من اختلاف الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان.
وقال أبو حيان: تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية أثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه، وهذا كما ترى، والاستفهام للتقرير، والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركا بالبصر لكن إنزال الله تعالى إياه ليس كذلك، والخطاب عام أي ألم تعلم أن الله تعالى أنزل من جهة العلو ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج، وقيل أي أخرجنا عنده، والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر، وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لونا من الطعام، واختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافا متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة، ويجوز أن يراد اختلاف كل نوع باختلاف أفراده.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف واختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وهو الأوفق لما في قوله تعالى.
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافا مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر، وجُدَدٌ جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه.
وقال أبو الفضل: هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه، وسأل ابن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضراء، وأنشد قول الشاعر:

قد غادر السبع في صفحاتها جددا كأنها طرق لاحت على أكم
والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد. وقرأ الزهري «جدد» بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة. وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان. وقال أبو عبيدة: لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية. ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولا فأولا ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضا وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر، والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها الله تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها، والفلاسفة يزعمون أنها كانت طينا في بحار انحسرت ثم تحجرت، وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه المباحث المشرقية واستدل على ذلك، بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها، وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثلة، ومن أراد الاطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم. وروي عنه أيضا أنه قرأ «جدد» بفتحتين ولم يجز ذلك أبو حاتم وقال: إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال: الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع، وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لاشتمال الطريق على قطع.
وتعقب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة

صفحة رقم 361

بالتشكيك فمختلف صفة بيض وحمر، وأَلْوانُها فاعل له وليس بمبتدأ، ومُخْتَلِفٌ خبره لوجوب مختلفة حينئذ، وجوز أن يكون صفة جُدَدٌ وَغَرابِيبُ عطف على بِيضٌ فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر، وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني.
وظاهر كلام الزمخشري أن غَرابِيبُ هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد.
وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه. ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده، وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه، وقوله تعالى: سُودٌ بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف، ونظير ذلك قول النابغة:

والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين الغيل والسند
وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار.
ويجوز أن يكون العطف على جُدَدٌ على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته، وكأنه لما اعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الاختلاف بالشدة والضعف.
وقال الفراء: الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب، وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما غَرابِيبُ معطوف على جُدَدٌ أو على بيض من أول الأمر وسُودٌ بدل منه، قال في البحر: وهذا حسن ويحسنه كون غربيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا، ومنه ما
جاء في الحديث إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب وهو الذي يخضب بالسواد
، وفسره ابن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم اهتمامه بأمر آخرته، وحكي ما في البحر بصيغة قيل، وقول الشاعر:
العين طامحة واليد شامخة والرجل لائحة والوجه غربيب
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: ٨] والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها.
وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبئ عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر اهـ، وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في البحر حيث قال: وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا فتأمل.
وقرأ الزهري «والدواب» بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم وَلَا الضَّالِّينَ لذلك.

صفحة رقم 362

وقرأ ابن السميفع «ألوانها» وقوله تعالى: كَذلِكَ في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف اختلافا كائنا كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ تكملة لقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨] بتعيين من يخشاه عزّ وجلّ من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عزّ وجلّ المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان، وقيل كَذلِكَ في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ إلخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي لخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين، قال صاحب الكشف: والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب.
وقال ابن عطية يحتمل أن يكون كَذلِكَ متعلقا بما بعده خارجا مخرج السبب أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء، ورده السمين بأن إنما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعا، وارتضاه الخفاجي وقال: وبه ظهر ضعف ما قيل: إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على كَذلِكَ إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق كَذلِكَ بما بعده.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك وهذا عندي ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف، والمراد بالعلماء العالمون بالله عزّ وجلّ وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلا فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى.
روى الدارمي عن عطاء قال: قال موسى عليه السّلام يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له قال: يا رب أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي وصح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له»
ولكونه المدار ذكرت الخشية بعد ما يدل على كمال القدرة، ولهذه المناسبة فسر ابن عباس كما أخرج عنه ابن المنذر وابن جرير الْعُلَماءُ في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير، وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: ٣٩] والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضا بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافون عقابه.
وأنكر بعضهم إفادة إِنَّما هنا للحصر وليس بشيء، وروي عن عمر بن عبد العزيز. وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرءا «إنما يخشى الله» بالرفع «العلماء» بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة، وقال أبو حيان:
لعلها لا تصح عنهما، وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيبا، وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله:

صفحة رقم 363
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية