آيات من القرآن الكريم

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ
ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

ولا يجوز عند غيره لأن اعملوا قام مقام اشكروا فلا يفرق بينهما.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت﴾ إلى قوله: ﴿إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين﴾.
أي: فلما جاء أجل سليمان فمات، ما دّلَّ الجن على موته إلا دابة الأرض، وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها، وهي المنسأة.
قال قتادة: أكلت عصاه حتى خر.
وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وأصل المنسأة الهمز لأنها مشتقة من نسأت الدابة إذا ضربتها بعصا أو غيرها لتسير.
ولكن نافعاً وأبا عمرو أبدلا من الهمزة ألفاً لغة مسموعة. وليس البدل في وحو هذا بالمطرد إلا في الشعر.

صفحة رقم 5902

وقد كان أبو عمرو يقول: لست أدري مِمَّ هي إلا أنها غير مهموزة. فرأى ترك همزها على طريق الاحتياط مع نقله ذلك عن أئمته أولاً وإنما كان ترك الهمزة للاحتياط، إذ جهل الاشتقاق لأن كل ما يهمز يجوزك ترك همزة، وليس كل ما لا يهمز يجوز همزه.
ثم قال: ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن﴾ أي: فلما سقط سليمان عند انكسار الصعا تبينت الجن.
﴿أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين﴾ أي: علم أن الجن لم تكن تعلم الغيب، لأنها لو كانت تعلم الغيب ما بقيت في العمل والتعب لسليمان وهو ميت.
قال قتادة: كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب، فلما مات سليمان ولم تعلم الجن بموته وبقيت في السخرة بجهد طائعة لميت عاملة له، فعند ذلك تبينت الجن للإنس أنهم لا يعلمون الغيب. وروى ابن عباس أن النبي ﷺ قال: " كان سليمان نبي الله إذا صلى، رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسْمُكِ؟ فإن كانت

صفحة رقم 5903

تُغرَسُ غُرِسَتْ وإن كانت لِدَواءٍ كُتِبَتْ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه فقال: ما اسمك؟ قالت الخروب فقال لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب أهل هذا البيت، فقال: اللهم عَمّ على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولاً، ومات وهو متوكئ وهم لا يعلمون، فسقطت فعُلِمَ أن الجن لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة فشكرت الجن الأرضة ".
وفي مصحف عبد الله: " تبيَّنَتِ الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وأن في قوله: " أن لو كانوا " في موضع رفع على المبدل من الجن. وقيل: هي في موضع نصب على معنى بأن.

صفحة رقم 5904

قيل: المعنى: فلما خرَّ تبين أمر الجن، فأن بدل من الأمر على المعنى.
وروي عن النبي ﷺ في حديث طويل: " أن سليمان كان يَتَجَرَّد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر، يُدْخِلُ طعامَه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فمات متكئاً على عصاه لا يعلم أحد بذلك، والشياطين يعملون له يخافون أ، يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تَجتَمِع حول المِحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه ومن خلفه فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق، فمر ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع لم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا مِنْسَأَتَهُ - وهي العصا بلسان الحبش - قد أكلتها الأرضة. ولم يعلموا منْذُ كَمْ مات، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة ".
وروي أن الجن كانت تظن أن الشياطين كانوا يعلمون الغيب، فأحب الله أن يبين لهم أن الغيب لا يعلمه غيره، فمات سليمان ﷺ وهو متكئ على عصاه، والشياطين

صفحة رقم 5905

دائبة في العمل له وفي الطاعة، فأقام أربعين يوماً متكئاً على العصا فبعث الله تعالى الأرضة - وهي السُّوسَة - فأكلت العصا فانكسرت فخر سليمان، فلما خر تبينت الجن أن الشياطين لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وقت موت سليمان، ولم يتمادوا في العمل والسُخرة له وهو ميت.
ويروى أن الشياطين قالت للأرضة لو كُنْتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب/، ولكننا سننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون لها ذلك حيث كانت، وذلك هو الطين الذي يكون في جوف الخشب تأتيها به الشياطين شكراً لها.
وذكر ابن وهب عن أبي شهاب: أنه لما توفي داود عليه السلام أقبلت الطَّيْرُ فصفت عليه حتى حبست عن الناس الرَّوْحَ، ووجدوا غماً شديداً، فقالوا لسليمان: يا نبي الله هلكنا الغنم، وأمر سليمان الطيرَ فقبضت جناحاً وأرسلت جناحاً فدخل عليهم الرَّوْح.
ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾.
أي: كان لهم في ذلك دلالة وعلامة أنه لا رب لهم إلا الذين أنعم عليهم تلك النعم " وجنتين " بدل من آية.

صفحة رقم 5906

وسبأ في فيما روي عن النبي ﷺ أبو اليَمَنِ، " كان لَه عشرة من الولد، تَيامن منهم سِتَّةٌ: كندة وَحِمْيَرُ والأزْدُ وَالأشْعَرِيُّونَ ومَذحِجُ وَأنْمَارُ الذين منهم بجيلة وخثعم، وتشاءم منهم أربعة: عَامِلَةُ وجُذام ولخم وغسان ".
قال قتادة: كانت لهم جنتان بين جبلين، وكانت المرأة تخرج بمكتلها على رأسها تمشي بين جبلين، فيمتلئ مِكتَلُها وما مسّت بيدها شيئاً، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها حدث فنقبت عليهم - يعني السد - فغرقتهم، فما بقي لهم إلا أثلٌ وشيء قليل من سدرٍ.
وقيل: إن قربتهم كان لا يُرى فيها ذبابة ولا بعوض ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرّكْبُ يأتون في ثيابهم القمل والذباب فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتهم

صفحة رقم 5907

فيموت ذلك، قاله ابن زيد قال: وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت القفة بأنواع الفاكهة ولم يتناول شيئاً بيده.
ثم قال: ﴿كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ﴾ إي: كلوا مما أنعم عليكم به من هاتين الجنتين وغيرهما، واشكروا نعمه على ذلك.
ثم قال: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي: هذه بلدة طيبة لا سبخة. ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ لذنوبكم إن أطعتموه.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم﴾ أي: فأعرضت سبأ عن طاعة الله وقبول ما أتاهم به الرسل، فأرسلنا عليهم سيل العرم.
قال وهب بن منبه: بعث الله جل جلاله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً، فكذبوهم فأرسله عليهم سيل العرم.
قال ابن عباس: " العرم " الشديد السيل.
وقال عطاء اسم الوادي.

صفحة رقم 5908

وروي ذلك عن ابن عباس قال: وَادٍ كان باليمن وكان يسيل إلى مكة. قال قتادة: ذكر لنا أن العرب وادي بسبأ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية فعمدوا فَسَدُّوا ما بين الجبلين بالقارِّ والحجارة، وجعلوا عليه أبواباً وكانوا يأخذون من مائة ما احتاجوا ويسدون ما لا يحتاجون. قال الضحاك: كانت أودية اليمن تسيل كلها إلى وادي سبأ وهو العرم فسَدُّوا ما بين الجبلين فحجزوه بالصخر والقار، فاستد زماناً من الدهر.
قال قتادة: فأرسل الله عليهم جُرَذَاً فهدم عرمهم، أي سدهم، ومزق الله جناتهم وخرب أرضهم عقوبة لهم.
وقيل: بل كثر الماء عليهم وغلب حتى هدم السد فغرق الجنات وأفسدها.
وعن ابن عباس: أنه إنما حاد السيل الذي يسقي جنتيهم عن مجراه فلم يسقها فهلكت.
وروي أن العرم مما بنته بلقيس صاحبة سليمان، وذلك أن قومها اقتتلوا على

صفحة رقم 5909

الماء فاعتزلتهم، فسألوها الرجوع على أن يطيعوها فرجعت وأمَرَتْهُم فسدوا ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض، وبَنَتْ من دونه بِرْكَةً ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، فإذا أتى المطر احتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فيجري ماؤه في البركة، ثم كذلك حتى ينتفعوا بجميع الماء.
والعرم بكلام اليمن المِسْنَاة.
وقال المبرد: العرم كل ما حاجز بين شيئين.
وروي أن الله جل ذكره أرسل عليهم ماء أحمر فشق السد وهدمه وحفر الوادي، فارتفعت حفتاه عن الجنتين فغاب عنهما الماء فيبستا، ولم يكن الماء الأحمر من السد، إنما كان عذاباً أرسله الله عليهم من حيث شياء.
ثم قال تعالى: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ أي: جعلنا/ لهم مكان الجنتين اللتين كانتا تثمر عليهم أطيب الفواكه ﴿ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾.
قال ابن عباس: هو الأراك. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.

صفحة رقم 5910

وقال ابن زيد: أُبْدِلُوا مكان العنب أرَاكاً، ومكان الفاكهة أثْلاً، وبقي لهم شيء من سدر قليل. فالأثل على هذا ثمر الأراك.
وقال الخليل: الخَمْطُ الأراك، فهذا يدل على قطافه كأنه قل ثم أراك. ومن نون جعل الثاني بدلاً من الأول.
قال المبرد: الخَمْطُ كل ما تغير إلى ما لا يشتهى، يقال خمط اللبن إذا حمض.
وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة فيها مرارة ذات شوك.
وقال القُتَبِي: يقال للحامضة خمطة، وقيل: الخمطة التي قد أخذت شيئاً من الريح.
والأثْلُ: الطْرفاء، قاله ابن عباس.
وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء.

صفحة رقم 5911

وقيل: هو السَّمُرُ.
ثم قال: ﴿ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ أي: عاقبناهم بكفرهم بالله ورسله، أي: هذا الذي فعلنا بهم جزاءً منا لهم بكفرهم.
وقيل: التقدير: وجزيناهم ذلك بكفرهم.
ف ﴿ذلك﴾ في موضع نصب على هذا، وفي موضع رفع على القول الأول على الخبر للابتداء المحذوف.
ثم قال: ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور﴾ أي: وهل يكافأ إلا من كفر بالله، فأما جاء المؤمنين فهو تفضل من الله لا مكافأة، لأنه جعل لهم بالحسنة عشراً، فذلك تفضل منه، وجعل للمسيء بالواحدة واحدة مكافأة له على جرمه، فالمكافآت لأهل الكبائر. والكفر، والمجازاة لأهل الإيمان مع التفضل.
قال مجاهد: ﴿نجازي﴾ يعاقب.
قال قتادة: إذا أراد بعبد كرامة يقبل حسناته، وإذا أراد بعيد هواناً أمسك عليه

صفحة رقم 5912

ذنوبه حتى يوافى بها يوم القيامة.
وقيل: المعنى: ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصْطِلاَمُ والهلاك إلا من كفر.
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: " مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ، قالت: فقلت يا ني الله، فأين قوله: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً﴾ [الإنشاق: ٨] قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقِش الحِسَابَ هَلَكَ ".
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي: مما أنعم الله به على هؤلاء، أي: جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها - وهي الشام - قرى ظاهرة، قاله مجاهد وقتادة.

صفحة رقم 5913

قال ابن عباس: هي الأرض المقدسة.
وقوله: ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي: متصلة متقاربة تتراءة من كان في قرية رأى القرية التي تليها لقربها منها.
قال الحسن: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح إلى قرية أخرى.
قال الحسن: كانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها تشتغل بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار، يرقد من غير أن تحترف شيئاً، بل يمتلئ الزنبيل مما يتساقط من الثمار في حال مسيرها تحت الثمار لاتصال بعض الثمار ببعض.
وقال ابن عباس: ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أي: عربية بين المدينة والشام، وهو قول الضحاك.
وقال ابن زيد: كان بين قريتهم وبين الشام قرى ظاهرة.
قيلأ: وإن كانت المرأة لتخرج ومعها مغزلها ومِكْتَلها على رأسها، تروح من قرية إلى قرية وتغدوا أو تبيت في قرية، لا تحمل زاداً ولا ماءً فيما بينها وبين الشام.

صفحة رقم 5914

وقال المبرد: الظاهرة: المرتفعة.
ثم قال: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير﴾ أي: جعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها مسيراً مقدراً من منزل إلى منزل، لا ينزلون إلا في قرية ولا يغدون إلا من قرية.
وقال الفراء: جعل الله لهم بين كل قريتين نصف يوم.
ثم قال: ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ أي: سيروا في هذه القرى التي قدرنا فيها المسير إلى القرى التي باركنا فيها - وهي بيت المقدس - آمنين، لا تخافون ظلماً ولا جوعاً ولا عطشاً.
قال قتادة: آمنين لا يخافون ظلماً ولا جوعاً، إنما يغدون فيقيلون في قرية ويروحون، فيأتون قرية أهل خير ونهر، حتى لقد ذكر لنا: أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها وتمتهن بيدها فيمتلئ مكتلها من الثمرة قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئاً، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً ولا سِقاءً مما بسط الله للقوم.
فهذا الذي ذكر الله من قصة سبأ وغيرها، إنما ذكره لنا ليبين لنا إحسان المحسن وثوابه، وإساءة المسيء وعقوبته/، ليتجافى الناس عن المعاصي ويرغبوا في الطاعة ويسارعوا إلى ما رغَّبهم فيه، ويزدجروا عن ما نهاهم عنه ويخافون أن يحل بهم ما حل بمن قص عليهم عقوبته، ويبادروا إلى فعل من قص عليهم كرامة لهم، فهي مواعظ وأمثال تكرر في القرآن ليتنبه لها الغافل ويجتهد المتنبه إحساناً من الله تعالى ونعمة علينا،

صفحة رقم 5915

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الروم: ٥٨]. وقال: ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال﴾ [إبراهيم: ٤٥]. وهذا كثير مكرر للأفهام في القرآن.
ثم قال تعالى: ﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾.
قرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأبو صالح: (رَبُّنا) بالرفع " بَاعَدَ بالفتح وألِفِ على الخبر.
وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر: (رَبُّنَا) بالرفع " بَعَّدَ " بالتشديد وفتح العين والدال. وقد رويت عن ابن عباس وهو خبر أيضاً.
وقرأ سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن: " رَبَّنَا " بالنصب " بَعُدَ " بضم العين وفتح الدال بين بالرفع.

صفحة رقم 5916

ورواه الفراء وأبو إسحاق الزجاج بَيْنَ وهو خبر أيضاً، ومعانيها ظاهرة، والمعنى على قراءة من جزم الفعل أنهم بطروا وجهلوا قدر النعمة عليهم، فسألوا أن يجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا لها، فعجل لهم الإجابة كما عجل للقائلين: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق﴾ [الأنفال: ٣٢] الآي فتقلهم يوم بدر، فكذلك هؤلاء مزقوا بين الشام وسبأ.
قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام، والأزد بعمان وخزاعة بتهامة، وفرقوا أيادي سبا وتقطعوا في البلدان بظلمهم لأنفسهم وكفرهم بنعمة الله.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي: فما تقدم من النعم على هؤلاء والانتقام منهم لما بطروا النعمة وكفروا، لدلالات وعظات لكل من صبر على طاعة الله ومحبته وشكر على نعمته.

صفحة رقم 5917

قال مُطَرِّف: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. وصبار شكور بناءان للمبالغة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أي: صدق عليهم في ظنه، وذلك أنه ظن ظناً على غير يقين فكان ظنه كما ظن بكفر بني آدم وطاعتهم له، منهم أهل الجنتين وغيرهم.
ومن شدد " صدق " ونصب " ظنه " بوقوع صدق عليه، لأن ظنه كان غير يقين، فصدقه بكفر بني آدم واتباعهم له.
قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصاً، وإنما ظن ظناً فكان كما ظن بوسوسته لهم.
والمعنى: أن إبليس لما أنذره الله قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولأحتنكن ذرية آدم، وذلك ظن منه أنه يكون، لم يتيقن ذلك. فلما وصل من بني آدم إلى ما أراد من

صفحة رقم 5918
الهداية الى بلوغ النهاية
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي
الناشر
مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة
سنة النشر
1429
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية