
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
شرح الكلمات:
لقد كان لسبأ في مسكنهم: أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.
آية: أي علامة على قدرة الله وهي جنتان عن يمين وشمال.
بلدة طيبة ورب غفور: أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها، والله رب غفور.
فاعرضوا: أي عن شكر الله وعبادته.
سيل العرم: أي سد السيل العرم.
ذواتي أكل خمط وأثل: أي صاحبتي أكل مرّ وبشع وشجر الأثل.
ذلك: أي التبديل جزيناهم بكفرهم.
القرى التي باركنا فيها: هي قرى الشام المبارك فيها.
قرى ظاهرة: أي متواصلة من اليمن إلى الشام.
وقدرنا فيها السير: أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.
ومزقناهم كل ممزق: أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.
إن في ذلك لآيات: أي في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبراً.
لكل صبّار شكور: أي صبار على الطاعات وعن المعاصي شكور على النعم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته

وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ (١) آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحميروكندة ومذحج وأنمار، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ أربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى ﴿في مسكنهم﴾ أي في مساكنهم ﴿آيَةٌ﴾ أي علامة على قدرة الله وإفضاله على (٢) عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادي أي جنتان عن يمين الوادي وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضر، تسقى بماء سد مأرب. ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾ أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ أي هذا الإنعام بالإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله.
وقوله ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها، ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ (٣) ﴾ يغفر ذنوبكم متى أذببتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أبطرتْهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروها كما قال تعالى ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإعراضهم وعدم شكرهم كما هي سنته في عباده. قال تعالى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ وذلك بأن خرب السد، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمْحلَت الأرض، وتبدلت قال تعالى ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ أي مرٍّ بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء، وشيء من سدر قليل. هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى ﴿ذَلِكَ﴾ أي الجزاء ﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا﴾ بسبب كفرهم وقوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (٤) ﴾ أي وهل نجازي بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة إلى نقمة غير الكفور.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ (٥) وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ وهي مدن الشام ﴿قُرىً ظَاهِرَةً﴾ أي مدناً ظاهرة على المرتفعات من الأرض، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة، وقوله ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بحيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل إلا في مدينة ويخرج بعد
٢ - إذ لو اجتمعت البشرية كلها على إخراج شجرة من خشبة يابسة لما استطاعت فكيف بأنواع النوار وألوانه واختلاف طعومه وروائحه وأزهاره.
٣ - في الآية إشارة إلى أن الذنب ملازم للإنسان لا يعصم منه إلا من أراد الله عصمته كأنبيائه، ولذا أعلمهم أن المنعم بهذه النعم رب غفور يغفر ذنب عباده إذا تابوا إليه فدعاهم بهذا إلى التوبة وأن الذنب مع التوبة لا يسبب الهلاك العام أو سلب النعم ما دام هناك توبة تعقب الذنب.
٤ - قرأ حفص وهل نجازي بنون العظمة والبناء للفاعل والكفور مفعول به منصوب وقرأ نافع والجمهور وهل يجازى بياء الغيبة مضمومة والفعل مبني للمفعول والكفور نائب فاعل والمعنى ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور أي الشديد الكفر عظيمه.
٥ - هذه الآية والتي بعدها ذكرتا تتميماً للقصة.

القيلولة فلا ينام إلا في مدينة أخرى حتى يصل إلى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقولهم تعالى: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم إلا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم وقالهم أن يباعد بين (١) مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب هذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل (٢). قال تعالى ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعُرِّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، وقوله تعالى ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عود اتصال أبداً فذهب الأوس والخزرج إلى يثرب "المدينة النبوية" وهم الأنصار، وذهب غسان إلى (٣) الشام، والأزد إلى عُمان، وخزاعة إلى تهامة وأصبحوا مضرب المثل يقال: ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ﴾ أي إن في إنعام الله على أبناء سبأ ثم نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبراً يعتبر بها كل صبور على الطاعات فعلاً وعن المعاصي تركاً، ﴿شَكُورٍ﴾ أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التحذير من الإعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم. وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.
٢- التحذير من كفر النعم بالإسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عز وجل.
٣- خطر الحسد وأنه داء لا دواء له، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
٤- فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.
٢ - قيل أن المسافة التي يقطعونها بين تلك المدن آمنين من الجوع والخوف مسيرة أربعة أشهر ذهاباً وإياباً وحالهم كحال بني إسرائيل كما قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض حيث ملوا أكل اللحم والعسل.
٣ - قال الشعبي فلحقت الأوس والخزرج (الأنصار) بيثرب (المدينة) وغسان وجذام ولخم بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة. فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول. تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ أي مذاهب سبأ وطرقها.