[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)كَانَتْ سَبَأٌ مُلُوكَ الْيَمَنِ وَأَهْلَهَا، وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ وَغِبْطَةٍ فِي بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهِمْ واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَيَشْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ الله تعالى، ثُمَّ أَعْرَضُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، فَعُوقِبُوا بِإِرْسَالِ السَّيْلِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبِلَادِ أَيْدِيَ سَبَأٍ، شَذَرَ مذر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريبا وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ:
مَا هُوَ أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ ستة، والشام مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ، فَمَذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ، وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ: فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ» وَرَوَاهُ عَبْدٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ بِهِ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ حسن، ولم يخرجوه، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ- فِي كِتَابِ الْقَصْدِ وَالْأُمَمِ، بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ- مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَعْلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» أَيْضًا وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ الْكَلْبِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَرْوَةَ بن مسيك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ بِمُقْبِلِ قومي مدبرهم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَعَمْ» فَقَاتِلْ بِمُقْبِلِ قَوْمِكَ مُدْبِرَهُمْ» فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: «لَا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ سَبَأً، واد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا بل هو رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، وُلِدَ لَهُ عَشْرَةٌ فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، تَيَامَنَ الْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَحِمْيَرُ وَكِنْدَةُ وَمَذْحِجُ وَأَنْمَارُ، الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَجِيلَةُ وَخَثْعَمُ، وَتَشَاءَمَ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ».
وَهَذَا أيضا إسناد حسن وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَبُو جَنَابَ الْكَلْبِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ الْعَنْقَزِيِّ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ الْمُرَادِيِّ عَنْ عمه أو عن أبيه- شك- أسباط- قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله ﷺ فذكره.
(٢) المسند ٣/ ٤٥٢.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] لِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدَ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ تَوْبَةَ بْنِ نَمِرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِأَفْرِيقِيَّةَ، فَقَالَ يَوْمًا: مَا أَظُنُّ قَوْمًا بِأَرْضٍ إِلَّا وَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ علي بن أبي رَبَاحٍ: كَلَّا قَدْ حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَنَّ فَرْوَةَ بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَبَأً قَوْمٌ كَانَ لَهُمْ عِزٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، أَفَأُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ ﷺ «مَا أُمِرْتُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ بَعْدُ» فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ الْآيَاتِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَبَأٌ؟ فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ سَبَأٍ مَا هُوَ: أَبْلَدٌ أم رجل أم امرأة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بَلْ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ، أَمَّا الْيَمَانِيُّونَ فَمُذْحِجُ وكندة والأزد الأشعريون وَأَنْمَارُ وَحِمْيَرُ غَيْرُ مَا حَلَّهَا، وَأَمَّا الشَّامُ فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ» فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ نُزُولِ الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كلها، والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[طَرِيقٌ أُخْرَى] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أبو أسامة، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَبْرَةَ النَّخَعِيُّ عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ مَا هُوَ: أَرْضٌ أَمِ امْرَأَةٌ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَكِنْدَةُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَالْأَزْدُ وَمُذْحِجُ وَحِمْيَرُ وَأَنْمَارُ» فَقَالَ رَجُلٌ:
مَا أَنْمَارُ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ فَذَكَرَهُ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بن حصين عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَأٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ وَحُسِّنَ. قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ- مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ-: اسْمُ سَبَأٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَأَ فِي الْعَرَبِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الرَّائِشُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَنِمَ فِي الْغَزْوِ، فَأَعْطَى قَوْمَهُ فَسُمِّي الرَّائِشَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَالَ رِيشًا وَرِيَاشًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ بُشِّرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا:
| سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظِيمًا | نَبِيٌّ لا يرخص في الحرام «٢» |
(٢) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير ٢/ ١٥٨.
| ويملك بعده منهم ملوك | يدينوه الْعِبَادَ بغَيْرِ ذَامٍ |
| وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوكٌ | يَصِيرُ الْمُلْكُ فِينَا بِاقْتِسَامِ |
| وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَانَ نبي | تقي مخبت خير الأنام |
| يسمى أَحْمَدًا يَا لَيْتَ أَنِّي | أُعَمَّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَامٍ |
| فَأَعْضُدُهُ وَأَحْبُوهُ بنَصْرِي | بِكُلِّ مُدَجِّجٍ وَبِكُلِّ رَامٍ |
| مَتَى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصِرِيهِ | وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلِغْهُ سَلَامِي |
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ» يَعْنِي الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام مِنْ سُلَالَةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وليس هذا المشهور عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؟ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا» «١» فَأَسْلَمُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ- وَالْأَنْصَارُ أَوْسُهَا وَخَزْرَجُهَا مِنْ غَسَّانَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ- نَزَلُوا بِيَثْرِبَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ سَبَأٌ فِي الْبِلَادِ حِينَ بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم، ونزلت طائقة منهم بالشام، وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْمُشَلَّلِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بن ثابت رضي الله عنه [البسيط] :
| إمَّا سَأَلْتَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ | الْأَزْدُ نِسْبَتُنَا والماء غسان «٢» |
«فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ» أَيْ بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم، منهم من
(٢) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٧٩، ولسان العرب (غسس)، (غسن)، وجمهرة اللغة ص ٨٤٦، وتاج العروس (أزر) (غسس).
أَقَامَ بِبِلَادِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَحَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَكَانَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ أَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا سُيُولُ أَمَطَارِهِمْ وَأَوْدِيَتِهِمْ، فَعَمَدَ مُلُوكُهُمُ الْأَقَادِمُ فَبَنَوْا بَيْنَهُمَا سَدًا عَظِيمًا مُحْكَمًا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ وَحُكَمَ عَلَى حَافَاتِ ذَيْنَكِ الْجَبَلَيْنِ، فَغَرَسُوا الْأَشْجَارَ وَاسْتَغَلُّوا الثِّمَارَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْحُسْنِ، كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ، وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ أَوْ زِنْبِيلٌ وَهُوَ الَّذِي تُخْتَرَفُ فِيهِ الثِّمَارُ، فَيَتَسَاقَطُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَمْلَؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَحْتَاجَ إِلَى كُلْفَةٍ وَلَا قِطَافٍ لِكَثْرَتِهِ وَنُضْجِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَكَانَ هَذَا السَّدُّ بِمَأْرَبَ. بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَيُعْرَفُ بِسَدِّ مَأْرَبَ.
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ وَعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ لِيُوَحِّدُوهُ ويعبدوه، كما قال تبارك وتعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ثُمَّ فسرها بقوله عز وجل: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أَيْ مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ ذَلِكَ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أَيْ غَفُورٌ لَكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وقوله تعالى: فَأَعْرَضُوا أَيْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عبادة الشمس من دون الله، كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ [النَّمْلِ: ٢٢- ٢٤] وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: بعث الله تعالى إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرْسَلَ الله عز وجل إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ الْمُرَادُ بِالْعَرِمِ الْمِيَاهُ، وَقِيلَ الْوَادِي، وَقِيلَ الْجُرَذُ، وَقِيلَ الْمَاءُ الْغَزِيرُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كُرْزٍ، حَكَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهَا الْجُرَذُ نَقَبَتْهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ سَبَبَ خَرَابِ هَذَا السَّدِّ هُوَ الْجُرَذُ فَكَانُوا يَرْصُدُونَ عِنْدَهُ السَّنَانِيرَ بُرْهَةً من الزمن فَلَمَّا جَاءَ الْقَدَرُ غَلَبَتِ الْفَأْرُ السَّنَانِيرَ، وَوَلَجَتْ إِلَى السَّدِّ فَنَقَبَتْهُ فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْجُرَذُ هُوَ الْخَلْدُ، نَقَبَتْ أَسَافِلَهُ حَتَّى إِذَا ضَعُفَ وَوَهَى، وَجَاءَتْ أَيَّامُ السُّيُولِ صَدَمَ الْمَاءُ الْبِنَاءَ فَسَقَطَ، فَانْسَابَ الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي وَخَرُبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ الْأَنِيقَةُ النَّضِرَةُ، كما قال الله تبارك وتعالى: