٥- ليس لأحد من الملائكة والجنّ والأنبياء والناس ادعاء العلم بالغيب، وإنما ذلك مختص بالله تعالى، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن ٧٢/ ٢٦- ٢٧].
وفي قصة موت سليمان متكئا على عصاه، دون أن تعلم الجن بموته، بدليل استمرارهم بما كلّفوا به من الأعمال الشاقة: مثل واقعي فذّ لجهلهم بالغيب، فإنه ظلّ مدة متكئا على عصاه، ثم سقط بسقوط العصا التي تآكلت بفعل الأرضة، وحينئذ علموا أنه ميّت.
قصة سبأ وسيل العرم
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ٢١]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
الإعراب:
لِسَبَإٍ من قرأ بالتنوين جعله منصرفا، وقال: هو اسم بلد أو حي، وليس فيه تأنيث، ومن لم ينونه، جعله غير منصرف للتعريف (العلمية) والتأنيث، وقال: هو اسم بلدة أو قبيلة.
فِي مَسْكَنِهِمْ من قرأ بالإفراد ففيه لغتان بفتح الكاف وكسرها، والفتح على القياس لأن مضارعه «يسكن». والكسر على خلاف القياس، مثل: مطلع ومغرب ومسجد ومسقط ومنبت ومجزر. ومن قرأ بالجمع جعله جمع مسكن.
جَنَّتانِ إما بدل من قوله آيَةٌ أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي جنتان، أو مبتدأ على تقدير: هنا جنتان، أو هناك جنتان.
بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ خبر مبتدأ أي هذه بلدة طيبة، وكذلك: وَرَبٌّ غَفُورٌ أي وهذا رب غفور.
لَيالِيَ وَأَيَّاماً منصوبان على الظرف. والليالي جمع (ليلة) على خلاف القياس. وأيام جمع يوم.
آمِنِينَ حال.
أُكُلٍ خَمْطٍ من قرأ بالتنوين جعل (الخمط) عطف بيان على (الأكل) ولا يجوز أن يكون صفة لأنه اسم شجرة بعينها، ولا بدلا لأنه ليس هو الأول ولا بعضه. ومن لم ينون أضاف (الأكل) إلى الخمط لأن الأكل هو الثمرة، والخمط هو الشجرة، فأضاف الثمرة إلى الشجرة، مثل تمر نخل، وعنب كرم.
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ذلِكَ: في موضع نصب لأنه مفعول ثان ل جَزَيْناهُمْ والمفعول الأول: الهاء والميم، وما: مصدرية أي بكفرهم.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ من قرأ صدق بالتخفيف، كان ظَنَّهُ إما منصوب انتصاب الظرف، أي في ظنه، وإما منصوب انتصاب المفعول به على الاتساع، وإما منصوب على المصدر. ومن قرأ بالتخفيف ونصب إبليس ورفع ظنه، جعل الظن فاعلا وإبليس مفعولا. ومن قرأ بالتشديد نصب ظَنَّهُ لأنه مفعول صَدَّقَ.
البلاغة:
يَمِينٍ وَشِمالٍ بينهما طباق.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا بين الكلمتين الأخيرتين جناس اشتقاق.
صَبَّارٍ شَكُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.
وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ بينهما ما يسمى بمراعاة الفواصل، من أنواع الجمال في اللفظ.
المفردات اللغوية:
لِسَبَإٍ اسم قبيلة من قبائل العرب العاربة في بلاد اليمن، وتعد أصلا تفرع منها عدة فروع في جزيرة العرب. وقد سميت باسم جدّ لهم من العرب: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. فِي مَسْكَنِهِمْ موضع السكنى وهو مأرب في بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. آيَةٌ علامة دالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته على إيجاد أمور عجيبة. جَنَّتانِ بستانان. عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ عن يمين واديهم وشماله. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي قيل لهم ذلك، والرزق: ثمار الجنتين. وَاشْكُرُوا لَهُ على ما رزقكم من هذه النعم في أرض سبأ، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور. وكون البلد طيبة: أنه ليس فيها سباخ ولا بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية لطيب هوائها.
فَأَعْرَضُوا انصرفوا عن شكر هذه النعم وكفروا بالله. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي دمّره الله، وفتق عليهم سد مأرب حتى انتقض، فدخل الماء بساتينهم فغرقها، ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم. والعرم: جمع عرمة: وهي الحجارة المركومة والمباني القائمة، وسيل العرم: هو السيل الذي لا يطاق لقوته وشدّته. أُكُلٍ خَمْطٍ مرّ، والأكل بمعنى المأكول: الثمر، والخمط:
كل شجرة مرّة ذات شوك وليس له ثمر. وَأَثْلٍ هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء، ولا ثمر له. سِدْرٍ شجر النبق له ثمر يؤكل. أهلك الله أشجارهم المثمرة، وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر، ووصف السدر بالقلة لأن ثمره مما يطيب أكله.
ذلِكَ التبديل. جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بكفرانهم النعمة، أو بكفرهم بالرسل، إذ بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي لا نجازي بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في كفران النعم أو الكفر بالرسل. وقرئ: يجازي.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ سبأ باليمن. وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والشجر وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة. قُرىً ظاهِرَةً مرتفعة على الآكام، متواصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي كانت القرى على مقادير للمسافر، بحيث يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى، إلى انتهاء سفرهم ووصولهم إلى الشام، دون أن يحتاجوا في الطريق إلى حمل زاد وماء. سِيرُوا فِيها أي وقلنا:
سيروا فيها. لَيالِيَ وَأَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار. آمِنِينَ لا تخافون في ليل ولا في نهار.
فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ وفي قراءة: بعّد. بَيْنَ أَسْفارِنا إلى الشام فإنهم بطروا النعمة كبني إسرائيل، فسألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الزاد. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر وبطر النعمة. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم في ذلك، جمع أحدوثة: وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، فإن الله أجابهم بتخريب القرى المتوسطة. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم في البلاد غاية التفريق. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ عبرا ودلالات واضحات. لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات. شَكُورٍ كثير الشكر على النعم.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق إبليس على الكفار ومنهم سبأ ظنه، والمعنى:
ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه. فَاتَّبَعُوهُ أي فصدق في ظنه، أو صدّق ظنه بأن وجده صادقا.
إِلَّا فَرِيقاً بمعنى لكن. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لكن فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه، ومِنَ:
للبيان.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي لم يكن له على المتبعين تسلط واستيلاء بوسوسة واستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ علم ظهور وانكشاف. مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ أي لنتعرف ونتميز المؤمن بالآخرة من الشاك. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ رقيب.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم أن فروة بن مسيك الغطفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ الآيات.
المناسبة:
بعد بيان حال الشاكرين لنعم الله المنيبين إليه، وهم داود وسليمان عليهما السلام، بيّن الله تعالى حال الكافرين بأنعمه، بحكاية قصة أهل سبأ، تحذيرا لقريش، ووعيدا لكل من يكفر بنعم الله تعالى.
اضواء على سبأ وسد مأرب:
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس صاحبة سليمان عليه السلام من جملتهم، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال سيل العرم، والتفرق في البلاد «١».
روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن ابن عباس يقول: إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سبأ ما هو، أرجل أم امرأة أم أرض؟
قال صلّى الله عليه وسلّم: «بل هو رجل، ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسّان»
وإسناده حسن.
قال علماء النسب كمحمد بن إسحاق: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ- أي تفرق- في العرب، وكان يقال له: الرائش لأنه أول من غنم في الغزو، فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا.
وأرض سبأ: طيبة الثمار والهواء، كثيرة الخيرات والبركات، أنعم الله على أهلها بنعم كثيرة ليوحدوه ويعبدوه. والسابئيون: قوم سكنوا اليمن، وأقاموا المدن العظام ذات الحصون والقلاع والقصور الشامخة.
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال: أحدها- أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح، والثاني- أنه من سلالة عابر وهو هود عليه السلام، والثالث- أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
وأما سد مأرب: فكأن الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء، وبلغ حافة الجبلين، فغرسوا الأشجار، واستغلوا الثمار.
وكان هذا السد بمأرب: بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسد مأرب. وقد جدد بناؤه عام ١٩٨٧ م.
التفسير والبيان:
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ «١» فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ كان لقبيلة سبأ باليمن التي كان منها ملوك اليمن في مسكنهم: مأرب آية هي بستانان عن يمين واديهم وشماله، وكانت مساكنهم في الوادي، وفي البستانين جميع الثمار، فقيل لهم: كلوا من رزق ربكم، أي من ثمار الجنتين، والقائل لهم نبيهم، أو القول بلسان الحال أو الدلالة لأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. وقيل لهم أيضا: واشكروا ربكم على ما رزقكم من هذه النعم، ووحدوه واعبدوه، واعتدال هوائها، وصحة مناخها، والله المنعم عليكم بهذه النعم رب غفور لذنوبكم إن استمررتم على التوحيد والطاعة.
فَأَعْرَضُوا، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ، وَأَثْلٍ، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ أي فأعرضوا عن توحيد الله، وعبادته وطاعته، وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما حكى القرآن عن قول الهدهد لسليمان عليه السلام: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ
عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل ٢٧/ ٢٢- ٢٤].
فأرسل الله عليهم سيل العرم، أي المياه الكثيرة الغزيرة، بأن تحطم سد مأرب، فملأ الماء الوادي، وغرّق البساتين الخضراء ثم يبست، ودفن البيوت، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وأعطوا بدل تلك الجنان والبساتين المثمرة الأنيقة النضرة بساتين لا خير فيها ولا فائدة منها، وإنما أشجار ذات ثمر مرّ هي الأراك، وأثل هو الطرفاء، والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل، وهو شجر النبق.
قال القشيري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا، ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠].
وسبب هذا العقاب كما قال تعالى:
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي إن ذلك التبديل من الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال الوارفة والأنهار الجارية إلى أشجار ذات أشواك وثمار مرة، كان بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق، وعدولهم عنه إلى الباطل، لقد عاقبناهم بكفرهم، ولا يعاقب الله إلا المبالغ في كفران النعم، والكفر بالرسل.
وبعد تعداد نعم الله على السابئيين في مساكنهم، ذكر تعالى باقة أخرى من النعم أثناء تنقلهم في البلاد، ومتاجرتهم مع بلاد الشام، فقال:
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالمياه والأشجار والخيرات الكثيرة قرى مرتفعة
معروفة، متواصلة، متقارب بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل ماء ولا زاد، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا، وهي قرى ظاهرة، أي بينة واضحة يعرفها المسافرون، لبنائها على هضاب عالية.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلناها محطات متعاقبة ذات مقادير متناسبة بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، فيقيلون في بلد، ويبيتون في آخر، إلى أن يصلوا إلى الشام.
سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أي وقيل لهم بلسان المقال أو الحال:
سيروا في تلك القرى ليالي وأياما آمنين مما تخافون في السير ليلا ونهارا، لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يهددكم.
ثم بطروا تلك النعمة، فقال تعالى:
فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي سئموا النعمة، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وقالوا: ربنا اجعل بيننا وبين البلاد التي نسافر إليها مفاوز وقفارا، ليركبوا فيها الرواحل، والتزود بالزاد والماء، إظهارا للتمايز الطبقي والتكبر والتفاخر على الفقراء والعاجزين، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنهم كانوا في عيش رغيد بالمن والسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس، كما طلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار لأغراض حربية، وهذا غاية الانتكاس على الفطرة، والإمعان في تدمير مظاهر الحضارة والتمدن والحياة الهانئة، لذا وصفهم الله بأنهم ظلموا أنفسهم إذ عرضوها للسخط والعذاب، وعاقبهم الله على بطرهم النعمة وكفرهم بالله، فقال:
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي جعلناهم عبرة لمن يعتبر،
وحديثا للناس يسمرون به في مجالسهم، وفرقنا شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، وفرقناهم في البلاد كل تفريق، فصارت العرب تضرب بهم المثل، فتقول: «تفرق القوم أيدي سبأ» وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها، فنزلت الأوس والخزرج بيثرب، وغسان آل جفنة بن عمرو بالشام، والأزد بعمان والسّراة، وخزاعة بتهامة، فمزقهم الله كل ممزق، وهدم السيل بلادهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي إن في هذا الذي حلّ بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة، وتحويل العافية، عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام، لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم.
وفي هذا إشادة بالصبر،
روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن: إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته».
وروي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
وكان مطرّف بن الشّخير يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
وبعد بيان قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان، أخبر تعالى بأنهم وأمثالهم هم ممن اتبع إبليس والهوى، وخالفوا الرشاد والهدى، فقال:
فقال:
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ظن إبليس بهؤلاء السابئيين أنه إذا أغواهم اتبعوه، فكان كما ظن بوسوسته، فانقادوا لإغوائه وعصوا ربهم وعبدوا الشمس من دون الله، إلا فريقا مؤمنا منهم قاوموا وسوسة الشيطان وعصوا أمره، وثبتوا على طاعة الله تعالى.
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي لم يكن لإبليس على هؤلاء القوم من حجة وبرهان لإضلالهم، ولم يقهرهم على الكفر، وإنما كان منه الوسوسة والتزيين، قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها، فأجابوه.
ولكن ابتليناهم بوسوسته وسلطانه عليهم لنعلم علم ظهور- وإلا فالله بكل شيء عليم- أمر من يؤمن بالآخرة وقيامها، والحساب فيها، والجزاء بالثواب والعقاب، ممن هو منها في شك، فلا يؤمن بحدوثها ولا بما اشتملت عليه من ثواب وعقاب. وربك أيها الرسول محافظ ورقيب على كل شيء، ومنه أعمال هؤلاء الكفار، وسيجازيهم عليها يوم الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لقد كان لقبيلة سبأ باليمن بساتين خضراء ومناظر رائعة حسناء، وخيرات وفيرة عن يمين واديهم التي يسكنون فيها وعن شمالهم في مأرب، وتلك علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة، لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر.
٢- كان جديرا بهم أن يشكروا نعم الله وما رزقهم بالطاعة، فضلا عن أن الرسل قالت لهم ذلك، فهذه أي مأرب بلدة طيبة، أي كثيرة الثمار، معتدلة المناخ، لطيفة الهواء، بعيدة عن المؤذيات، والمنعم بهذه النعم عليهم ربّ غفور يستر ذنوبهم، فجمع الله تعالى لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم، ولم يجمع ذلك لجميع خلقه.
٣- لقد خيبوا ما يظن بهم، فأعرضوا عن أمر ربهم واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين، فأرسل عليهم سيل العرم، أي نقض سدّ مأرب، فتدفقت المياه المدرارة الغزيرة، فغرّقت بساتينهم، ودفنت بيوتهم، فيبست الأشجار المثمرة، ونبت مكانها أشجار مرّة لا خير فيها من الخمط أي الأراك، والأثل: وهو كما قال الفراء: شجر شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا، والسّدر وهو نوعان: نوع له ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضّال، ونوع ينبت على الماء وثمره النّبق، وورقه يشبه شجر العنّاب.
قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيّره الله تعالى من شرّ الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة، وأثبت بدلها الأراك والطّرفاء والسّدر.
٤- هذا التبديل من النعمة إلى النقمة جزاء كفرهم، ولا يعاقب بهذا إلا المبالغ في كفران النعمة والكفر بالله تعالى.
وتساءل الزمخشري والقرطبي: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور، ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ والجواب أن المراد: هو الجزاء الخاص وهو العقاب بالاستئصال والإهلاك، وليس المراد: الجزاء العام الذي يشمل الكافر والمؤمن. هذا في الدنيا، وأما في الآخرة
فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حوسب هلك «١»، فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جلّ وعزّ:
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقش الحساب
ورواه الترمذي عن أنس: «من حوسب عذب».
[.....]
هلك»
والمعنى: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير.
٥- ومن النعم على أهل سبأ جعل طرقاتهم وممراتهم التجارية بين اليمن والشام مأهولة، لا تحتاج إلى حمل ماء وزاد، فقد جعل لهم محطات يستريحون فيها بالقيلولة والمبيت هي القرى الكثيرة على طول الطريق إلى الشام، قيل:
إنها كانت أربعة آلاف وسبع مائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. والمسافات بين تلك القرى منتظمة، إذ جعل بين كل قريتين نصف يوم، حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى.
كما أن تلك الطرقات كانت آمنة غير مخوفة ليلا ونهارا، ولا يحتاجون إلى طول السفر، لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان، لا يحرّك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحرّكه، فلم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكدّ.
٦- بطروا النعمة أيضا، وطغوا، وسئموا الراحة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة، فتبددوا في الدنيا، وتفرقوا في البلاد كل تفرق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل، ويتزودون الأزواد، وظلموا أنفسهم بكفرهم، وأصبحوا مدار القصص والتحدث بأخبارهم، وعبرة للمعتبر.
٧- إن في هذا التبديل والتدمير وتغير نمط الحياة من رفاه ونعومة إلى تعب وكدّ وشظف وخشونة لعبرة ودلالة لكل صبار يصبر عن المعاصي، شكور لنعم الله تعالى.
٨- كانوا في كفرانهم النعم، وجحودهم وجود الله وعبادتهم الشمس،