آيات من القرآن الكريم

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ

اللهمّ عمّ على الجنّ موتي حتّى يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكّأ عليها حولا ميتا والجنّ تعمل فأكلتها الأرضة فسقط فتبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين». وقد أورد الطبري أحاديث من باب هذا الحديث معزوة إلى ابن مسعود وأناس من أصحاب رسول الله ﷺ دون عزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأحاديث غير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة، فإذا كانت صحيحة فيكون فيها توضيح لأمور مغيبة وردت الإشارة إليها في الآيات فيوقف عندها.
والله أعلم.
ولقد سبقت تقريرات قرآنية متنوعة عن الجنّ وعلقنا عليها بما فيه الكفاية فلا نرى ضرورة لزيادة شيء هنا إلّا تقرير واجب الإيمان بما يخبر به القرآن عنهم وكون ذلك في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته المغيبة عنا. وقد يكون في ذكر حالتهم بالأسلوب الذي ورد في الآيات وتقرير جهلهم ما غاب عنهم وتسخيرهم هذه السخرة وتكليفهم هذه الخدمات وإجبارهم عليها مع ما فيها لهم من عذاب مهين هدفا استهدفته الآيات للتنبيه إلى هوان شأن هذه المخلوقات التي كان لها صورة فخمة مفزعة في أذهان العرب حتى وصل أمرهم منها إلى عبادتها والاستعاذة بها والتقرب إليها مما مرّت أمثلة لها في السور المفسرة السابقة، وتقرير كونها ليست إلّا من عباد الله يسخرها لعباده المخلصين، وليس من شأنها أن تعلم الغيب أو تجرا على ملكوت الله، أو تطلع على أسراره أو تستحق عبادة وتزلفا والله أعلم.
هذا، ومما يجدر التنبيه إليه التناظر بين أوائل سورة لقمان السابقة وبين أوائل هذه السورة، وما يلهمه من وحدة الأهداف من جهة، ومن صحة ترتيب السورتين في النزول واحدة بعد أخرى من جهة ثانية.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٩]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)

صفحة رقم 273

(١) العرم: قيل إنه اسم واد كانت تتجمع فيه المياه، وقيل إنه المطر الشديد. وقيل إنه اسم سدّ كان يحبس فيه الماء.
(٢) الخمط والأثل والسدر: أشجار طبيعية تنبت في الصحارى ذات شوك.
وثمرها غير صالح تعافه النفس.
(٣) القرى التي باركنا فيها: قيل إنها بلاد الشام التي كان موسعا عليها برزقها ومناخها، وقيل إنها بلاد المقدس التي باركها الله كما جاء في سورة الإسراء، والعجيب ألّا يذكر القائلون بلاد الحجاز التي كانت هي الأخرى مباركة. فهي أقرب إلى بلاد سبأ أي اليمن من بلاد الشام، وبينها وبين سبأ قرى ومدن عديدة.
ونحن نرجح أنها هي المقصودة.
(٤) ظلموا أنفسهم: جنوا عليها بانحرافهم وكفرهم.
في الآيات إشارة إلى سبأ وما كان من أمر أهلها.
فقد يسّر الله لهم رغد العيش في مسكنهم، وكانت لهم جنات عن اليمين وعن الشمال ليأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له نعمه، فبلدتهم طيبة الرزق وربهم غفور. ولكنهم أهملوا واجب الشكر وكفروا بنعمة الله فعاقبهم الله على جري عادته فأرسل عليهم سيل العرم فاجتاح جناتهم وخربها وبدلها بجنات من أشجار كريهة المنظر كثيرة الشوك مرة الطعم من الخمط والأثل والسدر. ولقد كان من نعمة الله عليهم أن جعل العمران متصلا بين بلادهم والبلاد التي بارك فيها بقرى ظاهرة متتابعة بحيث يستطيعون أن يسيروا ليالي وأياما آمنين شر أخطار الأسفار ومشاقها،

صفحة رقم 274

فلم يقدروا هذه النعمة أيضا حق قدرها وتحدوا الله بأقوامهم أو أفعالهم أن يباعد بين أسفارهم فظلموا بذلك أنفسهم وآذوها إذ سببوا انصباب نقمة الله وغضبه عليهم، فمزقهم في الأرض كل ممزق وجعلهم أحاديث الناس وموضوع نقدهم وتثريبهم ومضرب مثلهم.
وقد انتهت الآيات بتقرير رباني بأن في كل ذلك آيات وعبرا لا يدرك مغزاها ولا ينتفع بها إلّا كل صبار ثابت على الإخلاص لله، شاكر لنعمه وأفضاله قولا وعملا.
تعليق على قصة سبأ وسيل العرم
والآيات كما هو المتبادر تحتوي مثلا ثانيا مضروبا لمشركي العرب وجاحدي النبوة المحمدية تعقيبا على المثل الأول، فداود وسليمان شكرا الله وعملا الصالحات على ما كان لهما من ملك وعظمة شأن، فأسبغ الله عليهما نعمه وأفضاله وسخر لهما قوى الكون المتنوعة.
وأهل سبأ انحرفوا عن جادة الحق وكفروا بنعمة الله فعاقبهم ومزقهم وجعلهم أحاديث للناس.
ومن هنا يظل الاتصال قائما مستمرا بين هذه الآيات والآيات السابقة. وروح الآيات ومضمونها يلهمان أن ما كان من أمر سبأ وما صاروا إليه ليس غريبا على السامعين، وهذا ما يجعل العبرة والمثل قويين وملزمين هنا أيضا.
وسيل العرم من الحوادث التي أطنبت فيها الكتب العربية القديمة بناء على الروايات المتداولة من عهد الجاهلية «١». وقد ذكرت فيما ذكرته أن السيل اقتلع السدّ وطغى على القرى والجنات فخربها فأدى ذلك إلى هجرة كثير من قبائل اليمن إلى شمال جزيرة العرب وسواحلها الشرقية وبلاد الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين نزلوا في يثرب «المدينة المنورة»، ومنهم الغساسنة الذين أنشئوا

(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي والزمخشري، انظر أيضا بلوغ الأرب في أحوال العرب للآلوسي ج ٣ ص ٢٨٧- ٢٨٨.

صفحة رقم 275

دولة في بلاد الشام، ومنهم اللخميون الذين أنشئوا دولة في بلاد العراق، ومنهم بنو عبد القيس الذين أنشئوا دولة في عمان. وقد قدر المؤرخون أنه حدث قبل البعثة النبوية بنحو أربعمائة عام.
ولقد سبق تعريف لسبأ في سياق آيات في سورة النمل ذكر فيها هذا الاسم، وإذا كان من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو أن النقوش اليمنية ذكرت خبر وقوع خراب وعطب على سد مأرب العظيم مرة بعد مرة خلال القرون الخمسة التي سبقت البعثة النبوية. إن اسم سبأ ظل على ما تلهم الآيات إلى حادث سيل العرم يطلق على البلاد التي كان يطلق عليها من القديم وإن هذه البلاد ظلت مزدهرة عامرة إلى ذلك الوقت يتصل عمرانها بالبلاد المباركة التي رجحنا أنها الحجاز أكثر من بلاد الشام إلى أن أحدث السيل فيها ما أحدثه من تخريب وتدمير.
ولقد أورد المفسرون «١» بيانات كثيرة في سياق الآيات عن بلاد سبأ وسدها وجناتها وقراها وعمرانها وسيل عرمها وما أحدثه من خراب وما أدى إلى ذلك من هجرة أهلها وتفرقهم في أنحاء الأرض وما نبت في أرض جناتها من أشجار الأثل والخمط والسدر معزوة إلى علماء التابعين فيها الغث والسمين لم نر ضرورة إلى إيرادها، وفيها دلالة على أن أخبار سبأ وسيل العرم مما كان متداولا في بيئة النبي صلّى الله عليه وسلم وعصره في نطاق ما ورد في الآيات، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بذلك على سبيل العبرة والتمثيل.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في مناسبة جملة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم/ ٥] في الآية الأخيرة من الآيات حديثين أحدهما رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربّه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربّه وصبر، يؤجر المؤمن في كلّ شيء حتّى في اللّقمة يرفعها إلى في امرأته». وثانيهما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة جاء فيه: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عجبا

(١) انظر الهامش السابق. [.....]

صفحة رقم 276
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية