
يعني نساء جميع القبائل من المهاجرات وغير المهاجرات.
والقول الثاني: أنها محكمة ثم فيها قولان: أحدهما: أن الله تعالى أثاب نساءه حين اخْتَرنه بأن قَصَره عليهنّ، فلم يُحِلَّ له غيرهنّ، ولم ينسخ هذا، قاله الحسن وابن سيرين وأبو أُمامة بن سهل وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. والثاني: أنّ المراد بالنساء ها هنا: الكافرات، ولم يَجُز له أن يتزوَّج كافرة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد.
[سورة الأحزاب (٣٣) : آية ٥٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (٥٣)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية. في سبب نزولها ستة أقوال:
(١١٦٣) الأول: أخرجاه في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمَّا تزوَّج زينب بنت جحش دعا القوم، فطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدَّثون، فأخذ كأنَّه يتهيَّأُ للقيام، فلم يقوموا، فلمَّا رأى ذلك قام وقام مِنَ القوم مَنْ قام، وقعد ثلاثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل فاذا القوم جلوس، فرجع، وإِنَّهم قاموا فانطلقوا، وجئت فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنَّهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبتُ أدخلُ فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
(١١٦٤) والثاني: أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يتحيّنون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيدخُلون عليه قبل الطعام إِلى أن يُدرِك، ثم يأكلون ولا يخرُجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتأذَّى بهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(١١٦٥) والثالث: أن عمر بن الخطاب قال: قلت يا رسول الله! إِن نساءك يدخل عليهنّ البرّ
ذكره البغوي هكذا بدون إسناد عن ابن عباس، ولم أره مسندا.
- وورد نحوه عن الربيع بن أنس، أخرجه عبد بن حميد كما في «الدر» ٤/ ٤٠٢.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٢ و ٤٧٩٠ والنسائي في «التفسير» ٤٣٨ وابن حبان ٦٨٩٦ عن أنس عن عمر به، وأتم. ولم أره عن ابن عمر عن عمر، فالله أعلم.

والفاجر، فلو أمرتَهُنَّ أن يَحْتَجِبْنَ، فنزلت آية الحجاب، أخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر.
(١١٦٦) والرابع: أنَّ عُمر أمر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب، إِنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟! فنزلت الآية، قاله ابن مسعود.
(١١٦٧) والخامس: أن عمر كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: احجب نساءك، فلا يفعل، فخرجت سَوْدَةُ ليلة، فقال عمر: قد عرفناكِ يا سَوْدَة- حرصاً على أن ينزل الحجاب- فنزل الحجاب، رواه عكرمة عن عائشة.
(١١٦٨) والسادس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجل منهم يدَ عائشة، وكانت معهم، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت آية الحجاب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ أي: أن تُدْعَوا إليه «١» غَيْرَ ناظِرِينَ أي: منتظرين أَنْ. قال الزجاج: موضع «أنْ» نصب والمعنى: إِلا بأن يؤذن أو لأن يؤذن، و «غير» منصوبة على الحال المعنى: إِلا أن يؤذَنَ لكم غيرَ منتظرِين. و «إناه» : نضجه وبلوغه.
أخرجه مسلم ٢١٧٠ ح ١٨ والطبري ٢٨٦١٩ من طريقين عن الزهري به. وأخرجه البخاري ٦٢٤٠ من طريق صالح بن كيسان عن الزهري به. وأخرجه البخاري ٥٢٣٧ ومسلم ٢١٧٠ من طريق علي بن مسهر عن هشام عن عروة به. وأخرجه البخاري ٤٧٩٥ ومسلم ٢١٧٠ والبيهقي ٧/ ٨٨ من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه به. وأخرجه مسلم ٢١٧٠ وأحمد ٦/ ٥٦ من طريق ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه به. وأخرجه أبو يعلى ٤٤٣٣ وابن حبان ١٤٠٩ من طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه به.
وهم جميعا من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنهما. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٢٠:
هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت:
فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن».
ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٧٠٩ عن مجاهد مرسلا، وصوّبه الدارقطني كما ذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» ٣/ ٥٥. وأخرجه النسائي في «الكبرى» ١١٤١٩ والبخاري في «الأدب المفرد» ١٠٥٣ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٦٢١ من حديث عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلّم حيسا، فمرّ عمر، فدعاه فأكل، فأصابت يده إصبعي، فقال: حس! لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب وهذا منقطع مجاهد لم يسمع من عائشة كما في مراسيل ابن أبي حاتم. ثم إن الخبر منكر.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٦٢٠: حظّر الله على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه، قال: وهذا دليل على تحريم التطفيل، وهو الذي تسميه العرب: «الضيفن» اه.

قوله تعالى: فَانْتَشِرُوا أي: فاخرُجوا. قوله تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ المعنى: ولا تدخُلوا مستأنِسِين، أي: طالبي الأُنس لحديث، وذلك أنهم كانوا يجلسون بعد الأكل فيتحدَّثون طويلاً، وكان ذلك يؤذيه، ويستحيي أن يقول لهم: قوموا، فعلَّمهم الله تعالى الأدب، فذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي: لا يترُك ان يُبيّن لكم ما هو الحقّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أي: شيئاً يُستمتَع به وينتفع به من آلة المنزل فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ أي: سؤالكم إِيَّاهُنَّ المتاعَ من وراء حجاب أطهرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الرِّيبة.
قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي: ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء.
قال أبو عبيدة: «كان» من حروف الزوائد. والمعنى: ما لكم أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.
(١١٦٩) روى عطاء عن ابن عباس، قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لو توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوّجت عائشة، فأنزل الله تعالى ما أَنزل.
(١١٧٠) وزعم مقاتل أن ذلك الرجل طلحة بن عبيد الله.
قوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ يعني نكاح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً أي: ذنْباً عظيم العقوبة.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية. وورد من مرسل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة بن عبيد الله قال: إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم تزوجت عائشة. وفيه الواقدي ساقط الحديث متروك، فلا فائدة من هذا الشاهد. وبكل حال لا يحتج بالضعاف في هذا المقام على أن الحافظ ابن حجر ذكر هذا في «الإصابة» ٢/ ٢٣٠ وقال: طلحة بن عبيد الله بن مسافع، يقال هو الذي نزل فيه وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا... وذكره أبو موسى في «الذيل» عن ابن شاهين بغير إسناد، وقال: إن جماعة من المفسّرين غلطوا، فظنوا أنه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة اه. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١٤/ ٢٠٢:
وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن فضلاء الصحابة وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق هذا القول بالمنافقين الجهال.
اه.
قلت: وكون المراد طلحة بن عبيد الله أحد العشرة وفارس أحد باطل مفترى، وإن كان أحد المنافقين فهو محتمل حيث ورد من وجوه. وهذه الألفاظ إن صحت يكن قائلها منافقا، ولا يقولها مسلم.
وانظر «تفسير ابن كثير» ٣/ ٦٢١ و «فتح القدير» ٢٠٢٧ بتخريجنا و «الدر» ٥/ ٤٠٣- ٤٠٤.